{وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النّارِ} عندما يجتمع المستكبرون والمستضعفون ويلتقون وجهاً لوجهٍ ،يتذكر المستضعفون الأساليب التي كان يتبعها المستكبرون في إضلالهم وفي توريطهم في المعاصي التي توصلهم إلى غضب الله ،لأن المستضعفين لم يكونوا ذوي شخصيات قوية تستطيع رفض أوامر المستكبرين ونواهيهم ،ما حوّل المستضعفين إلى أدواتٍ مسخّرة لكل مشاريع المستكبرين الشيطانية ،وهكذا كان المستكبرون السبب في هذا المصير الذي انتهى إليه المستضعفون ..{فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} فقد كانوا الجمهور التابع الذي لا يملك قراره ،ولا إرادته ،بل يتلقّى التعليمات منهم ،فإذا كانت هناك حربٌ ظالمةٌ يريد المستكبرون ظلم الناس من خلالها ،قادوهم إليها ليقاتلوا لحسابهم ،وإذا كانت هناك مواقف منحرفة يريدون تأكيدها في المجتمع طلبوا منهم العمل على الالتفاف حولها ،وإذا كانت هناك ضغوطٌ مادّيةٌ أو معنويةٌ يريدون ممارستها على بعض القوى المضادّة لهم في الأمة ،أرادوا أن يكونوا الأدوات الضاغطة عليها ،وبهذا كانت تبعية المستضعفين سبباً في تقوية مراكز المستكبرين التي يظلمون الناس من خلالها ،فيقتلونهم ،ويسجنونهم ،ويعذبونهم ،ويضلّلونهم ،ويضغطون عليهم في مصالحهم ،وكان هؤلاء الضعفاء هم القوّة الغاشمة التي يسيطر بها الأقوياء على الضعفاء الآخرين ،ولولاهم لكان الضعفاء أقوى من المستكبرين ،لأن المستكبرين لا يمثلون عدداً كبيراً في الأمة ،ولا قوّةً هائلةً فيها ،لأن قوتهم مستمدةٌ من قوّة المستضعفين كما أن كثرتهم العددية ناتجةٌ عن كثرة أتباعهم ..ولهذا كان الضعفاء يحملون كل أوزارهم التي استحقوا بها دخول النار ،لأنهم يملكون فكراً يمكّنهم من معرفة الحقيقة ،ويملكون إرادةً تمكنهم من رفض الأوامر والنواهي الظالمة الطاغية ،ومواقع للقوة يستطيعون أن يبتعدوا بها عن مواقع الضعف ..فكانت مسؤوليتهم في انحرافهم عن الخط المستقيم كاملة .
وهكذا وقف الضعفاء أمام المستكبرين ليذكّروهم بصفة التبعية التي أعطتهم القوة التي انطلق فيها ملكهم ،وكبرت فيها سلطتهم ،وامتدت بها مواقعهم ،وأخذوا يطلبون مساعدتهم في الآخرة كما ساعدوهم في الدنيا ،ظنّاً منهم أنهم يملكون موقعاً ضاغطاً على الواقع الأخروي كما كانوا يملكون مثل هذا الموقع في الدنيا ..{فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ} فهم مقتنعون بأنهم لا يستطيعون تخليصهم من النار التي سيقعون فيها ،لذلك طلبوا منهم التدخل للتخفيف عنهم ،من قسوة عذابها ..وربما كان طلبهم ذاك ليس طلباً حقيقياً ينم عن اعتقادهم بقدرتهم على التدخّل ،بل كان هدفه تسجيل نقطةٍ حادّة عليهم لأنهم كانوا سبب دخولهم النار ،من موقع دور التبعية الذي فرضوه عليهم باستغلالهم لنقاط ضعفهم .فهم يريدون أن يقولوا لهم ،في ما يوحي به هذا الاحتمال ،إذا كنتم تملكون في الدنيا القوة التي تستعرضون بها عضلاتكم المعنويّة ،فهل تملكون ذلك الآن ؟!ليبقى السؤال متحدياً ساخراً متحركاً من موقع المرارة الروحية .