{فَلِذَلِكَ} أي لأن الله شرع لكم هذا الدين وأراد منكم أن تقيموه على أصوله ،وأن تثبتوا عليه وتُثَبِّتوه بالكلمة والممارسة ،وأن تجعلوا مفاهيمه أساساً للوحدة ،ولا تتفرقوا فيه ليأخذ كل فريقٍ منكم جانباً منه مما ينفعه في ذاتيته وأنانيته ،ويترك الجانب الآخر الذي لا يتوافق مع ما يريده ،{فَادْعُ} إلى هذا الدين بكلّ ما تملكه من وسائل الدعوة بما يقيمه في الحياة ،ويثبّته في العقول والمشاعر ،{وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} في خطه المستقيم الذي يصل البداية بالنهاية ،فيبدأ من الله ويتحرك في خط دينه وشريعته ،وينتهي إليه في الإخلاص له ،والانطلاق مع رضوانه ،فإن الاستقامة تعني الوقوف مع كل حكمٍ من أحكامه ،ومع أيّ مفهومٍ من مفاهيمه بكل دقةٍ واتزان من دون أن ينحرف عنه ذات اليمين وذات الشمال ،وهي تمثِّلإلى جانب ذلكعمق الالتزام الروحي بالدين والانسجام مع كل مفرداته من دون زيادة ولا نقصان .
ذلك أنّ ما يريده الله من الإنسان المسلم الداعية ،أن ينطلق في دعوته من موقع التحديد الدقيق للفكرة الإسلامية ،فلا يُدخل فيها شيئاً من أفكار الباطل ليقرّبها إلى الناس الذين قد لا يرغبون في الحق إذا لم يكن ممزوجاً بالباطل ،فيعمد بعض الدعاة إلى التساهل في المفاهيم ،ويفسح المجال أمام الانحراف لأن يزحف إليها ،طلباً لرضى الناس من خلال ذلك ،وهو ما يحدث غالباً في بعض الأجواء الثقافية المعاصرة التي يشن فيها بعض المثقفين ممن يحملون فكراً غير إسلاميٍّ ،حرباً إعلاميّةً نفسيّةً ضد المسلمين الملتزمين ،فيتهمونهم بالتطرف والتعصب والتعقيد لجرّهم إلى تقديم التنازلات والالتزام ببعض مفاهيم الباطل ،بذلك يحصلون على صفات التسامح والاعتدال والواقعية ..التي تقرّبهم من المجتمع وتجعلهم مرضيّين عنده ،وهكذا يستمر الضغط بهذه الطريقة في كل موقع من مواقع الإسلام التي يحتاج فيها الباطل إلى موقف إسلاميٍّ متسامحٍ لحسابه ليقدّم المسلمون التنازلات حتى ينتهي الأمر بهم إلى التنازل عن الإسلام نفسه ..
لهذا ،فإن اعتبار الإسلام هو المقياس الذي نقيس به اتجاه التطرف والاعتدال والتسامح والتعصب ،أمرٌ ضروريٌّ ليستقيم للدعاة الإسلاميين دينهم الحق ،ولتتوازن خطواتهم الفكرية والعملية على خط الإسلام فكراً وعملاً وحركةً ،لأن المفهوم الإسلامي يقضي بأن يخضع الواقع للإسلام ،ويتغيّر على أساسه ،لا أن يخضع الإسلام للواقع لنغيّر الإسلام من خلاله ..
لا تتبع الأهواء
{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءهُمْ} فإن ما عندهم من عقائد وعادات وأوضاع لم ينبع من دراسةٍ فكريةٍ عميقةٍ للمصالح والمفاسد التي تكمن في داخلها ،بل من الأَهواء التي تحركها الانفعالات والأحاسيس في ما يشتهونه ،وما يتحسسونه ،على مستوى الأهواء الفردية التي يلتقي عليها الأفراد ،أو على مستوى الأهواء الطبقية ،في ما يلتقي عليه أفراد الطبقة المستغلة المسيطرة على الوضع كله ،أو على مستوى شخصٍ واحدٍ مهيمنٍ ،ممن يسمّيه الناس ملكاً أو أميراً أو رئيس عشيرة ،أو شخصاً صاحب سيفٍ أو مال ..ولذلك فإنها لا تصلح لتكون أساساً للاتباع ،لأنها لا تبني للإنسان حياته على قاعدة قوية ثابتة ،لأن الأوضاع التي ترتكز على الانفعالات ،سوف تسقط أو تتبخَّر عندما ترتبك تلك الانفعالات أو تهتز القضايا التي أثارتها وحرّكتها في داخل الواقع .
وقد نستوحي من هذه الفقرة التي تنهى عن اتباع الأهواء ،أنَّ التوجيه الإِلهي لا يريد للإنسان أن يجعل حركته في الحياة تابعةً لهواه ،أو لهوى الآخرين ،لأن ذلك لن يحقق للحياة الإنسانية عمقاً وامتداداً ،بل لا بد له من أن يدرس الأشياء بعمقٍ ودقةٍ كي يستطيع اكتشاف صلاحه في الدنيا والآخرة .
الله جامعٌ الناس بربوبيته
{وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} فتعالوا لننطلق من هذا الإيمان إلى إيجاد قاعدةٍ للِّقاء ،فإني أؤمن بالتوراة والإنجيل والقرآن ،فلنتحاور حول ذلك ،لنتفقمن خلال الحوارعلى الوحي الإِلهي حتى ننفتح على الحقيقة من خلاله ،{وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} فلستُ نبيّاً يريد السيطرة على الساحة كلها من خلال تعميم القناعة بدعوته من أجل أن يظلم الناس ،بل إنني جئت بالعدل لكل الناس ،سواء كانوا ممن يستجيبون لي ولرسالتي ،أو كانوا ممن لا يستجيبون لي ولها ،لأن مسألة العدالة لا تفرق بين الأتباع وغير الأتباع ،ولا بين الأعداء والأصدقاء ،والأنبياء لن يصبحوا من الجبارين عندما يبلغون مراكز القوّة ،بل هم من الرحماء العادلين الذين يحركون قوّتهم في خط رسالتهم ..ويحرّكون رسالتهم من أجل حلّ مشكلة الحياة كلها ،والناس كلهم .
{اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} هذه حقيقة واضحة أقدّمها لكم لنلتقي عليها إذا كنتم تؤمنون بالله ربّاً ،فهو الذي يجمعنا بربوبيته ،في ما نستشعره من رعايته ولطفه وحنانه ورحمته ،من خلال الشعور بحضوره في كل وجودنا .
فرديّة نتائج المصير
{لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وتلك هي ساحة المسؤولية التي لا يطغى فيها موقعٌ على موقعٍ ،ولا يتحمل فيها شخصٌ عن شخصٍ آخر أيّ شيء ،فلكل واحدٍ عمله الذي يُسأل عنه ..لذلك فإن مسألة الدعوة ،هي أنَّ نتائج المصير ستكون فرديّةً بما يتناسب مع التزام خطّ المسؤولية في حياة هذا الشخص أو ذاك ،فإذا كان عمله صالحاً فلا بد من أن ينتهي إلى رضوان الله وإلى الجنة ،وإذا كان سيّئاً فلا بد من أن ينتهي إلى سخط الله وإلى النار ،دون أن يكون لأيّ شخصٍ قريبٍ دخلٌ في ما يحصل له أو يصيبه .
{لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} الظاهر أن المراد بهذه العبارة أنكم لستم مسؤولين أمامنا عن تقديم الحجة على ما قمتم به أو انتميتم إليه من فكر ،ولسنا مسؤولين أمامكم لنقدم الحجة على موقفنا وانتمائنا ،لأننا جميعاً مسؤولون أمام الله ،فهو الذي يجب أن نقدّم الحجة إليه .
وقيل إن المراد به «نفي الحجة ،كناية عن نفي لازمها وهو الخصومة ،أي لا خصومة بيننا بتفاوت الدرجات ،لأن ربنا واحد ،ونحن في أننا جميعاً عباده واحد ولكل نفس ما عملت فلا حجة في البين ،أي لا خصومة حتى تتخذ لها حجة »[ 2] .
وذكر بعضهم أن المعنى لا احتجاج ولا خصومة ،لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ،ولا للمخالفة عمل سوى المكابرة والعناد .ولعل هذا الوجه أقرب من سابقه ،بالرغم من إشكال صاحب الميزان عليه ،بأن «الكلام مسوق لبيان ما أُمر به النبي( ص ) في نفسه وفي أمته من سنة التسوية لا لإثبات شيءٍ من أصول المعارف حتى تحمل الحجة على ما حملها عليه »[ 3] .ولكن لا دليل على أن الكلام كله مسوق لذلك ،بل الظاهر أنه لونٌ من ألوان تحديد الموقف وبيان طبيعة العلاقة التي تحكم الجميع في ما انتهى إليه أمرهم من النتائج الواقعية التي يقف فيها كل فريقٍ في موقعه ،بعد استنفاد الوسائل التي تحدد الموقف ليواجه كل فريق خصوصياته التي تؤكد موقفه .
لكننا ذكرنا أن الأقرب هو ما استوحيناه من الآية ،بقرينة الفقرة التالية{اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة ليحاسبنا على كل شيء .وهناك الموقف الذي تنطلق فيه الحجة لتؤكد نفسها أمام الله ،لأن ذلك هو موقع الحجة في حركة المسؤولية ،عندما يقدم كل واحدٍ منا حجته على صاحبه ،أو حجته على عمله ،أمام ربّه ،ليكون الله هو الحكم بيننا ،أو هو الحاكم علينا ،{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} الذي ينتهي إليه أمر العباد كلهم ،فيقفونجميعاًأمامه ،فله الأمر والحكم في كل شيء ..