{وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} فلم ينفتحوا على العلم من القاعدة الأخلاقية التي تمتد في شخصية العالم وتمنحه روحية التواضع لله ،والخضوع للحق ،والانفتاح على الحوار الفكري الذي يقود إلى النتائج الحاسمة في قضايا العقيدة والحياة ،بل استغرقوا في الجانب الذاتي من العلم ،الذي يوحي بالأنانية ،ويقود إلى الشعور المَرضي بضخامة الشخصية ،التي تدفعه إلى طلب مركزٍ اجتماعيٍّ يرفعه إلى مقام الزعامة والرئاسة ..وعلى ضوء ذلك ،تتحرك حساباته على أساس الربح والخسارة في الجانب المادي ،وتنطلق العلاقات في هذا الخط ،وترتكز المواقف على هذا الأساس ..وهذا ما يدفعهم إلى ظلم بعضهم بعضاً وظلم الآخرين ،كما يقودهم إلى الحسد والتنافس على المراكز والمواقع والتأكيد المبالغ فيه على خصوصيات الذات الفكرية التي تشكل حاجزاً منفصلاً غرضه الفصل بين الناس حماية لمصالح البعض ومواقعهم .وهذا هو الأساس الذاتي في الخلافات المعقدة في المواقع الفكرية والاجتماعية والسياسية ..وهو أمرٌ قد لا يمثل خطورةً كبيرةً في غير الجانب العقيدي في المسألة الدينية ،لأن الفصل في القضايا المادية ،أو في مستوى الأمور الذاتية في أكثر من صعيد ،أمّا المسألة الدينية ،فإن الخطورة فيها تشتد حتى تصل إلى درجة الإشراف على الهلكة في علاقة الناس بالله وبالحياة كلها ،فإن الانحراف في هذا المجال يؤدي إلى الهلاك على مستوى المصير ..فإن الله قد يغفر للناس بعض صغائر الذنوب وكبائرها ،ولكنه لن يغفر لهم أن يشركوا به ،أو بعض الذنوب الكبيرة التي تطال خطورة نتائجها الحياة كلها ..
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} في ما أراد للناس من أن يأخذوا الفرصة للتوبة وللرجوع إليه ،فقدّر لهم أن يعيشوا أمداً معيناً من دون أن ينزل عليهم العذاب ليهلكهم{لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بإنزال العذاب في الدنيا قبل الآخرة فيهلكهم جميعاً ،وهو أمر ميّز به الله أمّة محمد( ص ) على الأمم السابقة التي أنزل عليها العذاب .
الوراثة الدينية المتعصّبة
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} ممن جاءوا بعد هؤلاء الذين أوتوا العلم ،فلم يكن لديهم أيّ معرفة يستطيعون بها الحصول على وضوح الرؤية الفكرية في هذه المسألة ،بل انطلقوا في مواقفهم من حالةٍ وراثيةٍ يقلّد فيها الآخرون الأولين على أساس النسب أو البيئة ،أو الموقع الديني ،{لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} والريبة فيه هي نتيجة ما يحملونه عنه من تصور ،أو نتيجة الخلفيات الذاتية المعقدة التي تكمن وراء ذلك ،لأنهم لا ينطلقون ،في موقفهم من الرسالة الجديدة والوحي الجديد ،الذي جاء مصدِّقاً لما معهم ،من قاعدةٍ فكرية للرفض ،بل من عصبيةٍ دينيّة ،لا تحمل من الدين معناه وروحيته وحيويته ،بل تحمل منه الانفعالات التي توحي لهم بأن الدين يقف عندهم ليكون خاتمةً لكل وحيٍ ورسالةٍ ،فلا يسمحون لوضوح الرؤية بأن ينفذ إلى تصوراتهم من خلال الحجج التي يقدمها الكتاب الجديد والرسول الجديد .