في هذه الآيات حديثٌ عن وحدة أصول الرسالات ومفاهيمها العامة التي تبقى ثابتةً من دون خَلَلٍ أو اهتزاز ،وإن اختلفت حركة جزئياتها ومصاديقها التطبيقية ،في ما يمكن أن يتغير من خصوصيات الشرائع ومفردات الأحكام ،فإن ذلك التغير يمثل تغيراً في التطبيق لا في النظرية ،وفي الآيات أيضاً حديثٌ عن أسباب اختلاف الناس في أديانهممع وحدة الدين الحق،فلم يكن التفرق ناشئاً من حالة جهلٍ ،بل عن عقدة بغيٍ وأنانيةٍ دفعتهم إلى إنكار الحق الواضح والانحراف عن الصراط المستقيم ،بهدف الحصول على امتيازاتٍ ذاتيةٍ أو الحفاظ على ما لديهم من امتيازات ،وإسقاط لدعاة الحق ،خوفاً من علوّ شأنهم ،وارتفاع درجتهم في الأمة بحيث يسيطرون على الواقع كله .
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} من توحيد الله في العقيدة والعبادة ،والسير على خط تقواه في كل مجالات العمل ،{وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} من ذلك ومن تفاصيل الأحكام التي تتحرك مفرداتها في خط التوحيد ،بما يمثله التوحيد من موقفٍ وحركةٍ ،إلى جانب الفكر الذي يعيش في الذهن .
{وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} وهم الذين يمثلونإلى جانب نوحالنبوّة العامة التي تتحرك في دائرتهم كل النبوّات الخاصة ،وهي تشتمل المبادىء العامة في العقيدة ،والأخلاق وفي مقدمتها الوصايا العشر ،والخطوط المتحركة على صعيد الشريعة ،في ما تفرضه حاجة الزمن في مرحلةٍ معينةٍ مما قد تتجاوزها مرحلةٌ أخرى ..ولم تكن تلك الوصايا فكراً يراد له أن يعيش في الذهن ؛بل كان موقفاً وحركةً في خط الثبات والاستقامة والوحدة ،فقد أنزل الله الدين على خلقه ليكون منطلق وحدةٍ ،وحركة استقامةٍ ..فلا بد من إقامته وتحويله إلى خطٍّ للسير ،ومنهجٍ للعمل ،وعنوان للشخصية ،وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية ،التي جاءت بمثابة التفسير للوصايا الإلهية للأنبياء ،ولتلخيص الإرادة الإِلهية التي تؤكد المعنى الحركي في داخلها .
{أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} وذلك بالالتزام به ،والانتماء له ،والسير على منهجه ،وتحويله إلى سلوكٍ عمليٍّ في الحياة ،والوقوف عند ثوابته وجعلها منطلق وحدةٍ وملتقى موقف ،لتصل الناس في كل مرحلةٍ من مراحل النبوّات بخط النبوّة التي سبقتهم ،وينفتحوا على ما يأتي بعدهم من نبوّات ،إذا كانوا يحملون بعض الفكرة عنها ،فلا يتجمد الإبراهيميّون أمام الموسويين ،ولا يتجمد الموسويون أمام العيسويين ،ولا العيسويون أمام المسلمين ،لأن كل نبيّ يطرح مبادىء العقيدة والأخلاق العامة نفسها التي طرحها النبي الذي سبقه أو يليه ،بحيث لا يترك مجالاً للتضاد في الانتماء إلى النبوات كي لا يتفرق المؤمنون بالله في أديانهم ،لأن الله قد وضع لطريق الإنسانية مراحل عدة ،لتكون كل رسالةٍ فيها خطوةً متقدمةً على الطريق ما يجعل كل نبيٍّ يكمل ما بدأه النبي السابق .
الله يصطفي أنبياءه
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من الإيمان بتوحيد الله ورسوله ورسالته ،وما تشتمل عليه من التزاماتٍ أخلاقيةٍ في أنفسهم وأموالهم وعلاقاتهم ،ولكن ما قيمة هذا الموقف المتشنّج المعقّد من الأنبياء ،فلن يستطيع المشركونمهما بلغوا من القوّةأن يوقفوا خط الرسالات ،فإذا كان هؤلاء قد كفروا بها ،فإن هناك كثيراً ممن انفتحوا على الله وعلى رسله ،كما أن لا قيمة لاستغرابهم لأن يكون النبيّ منهم ،في الوقت الذي لم يكن في الموقع الكبير الذي يتناسب مع مركزهم ..لأن الله هو الذي يصطفي رسله ويجتبي أنبياءه ،عبر مقاييس تختلف عن مقاييسهم ،فإذا كانوا يعتبرون المال والقوّة والمركز الاجتماعي ونحوها من الأسس التي يرتكز عليها الموقع النبوي ،إذا أمكن للبشر أن يكونوا أنبياء ،فإن الله يعتبر العقل والروحية والخلق العظيم والكفاءة الرسالية في إبلاغ الدعوة والثبات في مواقع الاهتزاز ونحو ذلك مما يؤهل الإنسان لاحتلال موقعٍ متقدمٍ يلتقي فيه هي المقياس الذي يرفع من مقام الإنسان لديه ويعلي من درجته .
{اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} فهو الذي يصطفي من عباده مَنْ يتميزون بالمواصفات التي تؤهلهم لاحتلال الموقع الرسالي ،فهو «أعلم حيث يجعل رسالته » ..وهناك وجهٌ آخر لتفسير هذه الفقرة ،وهو ما ذكره في تفسير الميزان من أن المقصود أن «الله يجمع ويجتلب إلى دين التوحيدوهو ما تدعوهم إليهمن يشاء من عباده »[ 1] .ولكن هذا التفسير يجعل كلمة{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} بمثابة التوضيح للأولى ،بينما تكون الفقرتان مختلفتين على التفسير الأول ،ليكون قوله تعالى:{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} بمثابة إشارة إلى هؤلاء الذين يرجعون إلى الله ويخلصون له من موقع الإيمان العميق ،فيهديهم الله إليه ويوفقهم إلى ذلك ،والله العالم .