قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ} .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [ الأحزاب: 7] الآية .
قوله تعالى:{وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} .
الضمير في قوله: فيه ،راجع إلى الدين في قوله: أن أقيموا الدين .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين ،جاء مبيناً في غير هذا الموضع ،وقد بين تعالى أنه وصى خلقه بذلك ،فمن الآيات الدالة على ذلك ،قوله تعالى{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [ آل عمران: 103] الآية .
وقوله تعالى:{وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [ الأنعام: 153] وقد بين تعالى في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي ،وعددهم على ذلك كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [ الأنعام: 159] ،لأن قوله{لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء} إلى قوله{يَفْعَلُونَ} فيه تهديد عظيم لهم .
وقوله تعالى في سورة{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [ المؤمنون: 1]{وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُون ِفَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون َفَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [ المؤمنون: 52-54] .
فقوله{وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ودينكم دين واحد ،وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين .
وقوله جل وعلا:{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك .
وقوله تعالى:{فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك .ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء:{إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [ الأنبياء: 92 -93] فقوله تعالى:{كُلٌّ إِلَيْنَا راجِعُونَ} فيه أيضاً تهديد لهم ووعيد على ذلك وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى{إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [ الأنبياء: 92] الآية .
وقد جاء في الحديث المشهور «افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة ،وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ،وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ،وأن الناجية منها واحدة ،وهي التي كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه » .
قوله تعالى:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} .
بين جل وعلا أنه كبر على المشركين أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم من عبادة الله تعالى وحده ،وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ،ولعظم ذلك ومشقته عليهم ،كانوا يكرهون ما أنزل الله ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له ،بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها .
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله ،وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد بين تعالى مشقة ذلك على قوم ونوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مقامي وتذكيري بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [ يونس: 71] الآية .وقوله تعالى عن نوح{وإني كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً} [ نوح: 7] .
فقوله تعالى{جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ} يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح ،فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به .
وقد بين الله تعالى مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في آيات من كتابه كقوله تعالى{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا} [ الحج: 72] فقوله تعالى:{تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ} الآية .يدل دلالة واضحة ،على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات .
وكقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ} [ فصلت: 26] الآية .وقوله تعالى في الزخرف .{لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [ الزخرف: 78] الآية ،وقوله تعالى في قد أفلح المؤمنون{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [ المؤمنون: 70] وقوله تعالى في القتال{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [ محمد صلى الله عليه وسلم: 9] ،وقوله تعالى:{تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فبأي حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُون َوَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [ الجاثية: 6 – 8] وقوله تعالى{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [ لقمان: 7] ،وقوله تعالى:{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [ فصلت: 5] الآية .والآيات بمثل ذلك كثيرة .
واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله ،يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم ،لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء ،كما أوضح تعالى ذلك في قوله:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمر وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [ محمد صلى الله عليه وسلم: 24 -28] فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر ،من أن يقول للذين كفروا ،الذين يكرهون ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ،لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة ،ويكفيه زجراً وردعاً عن ذلك قوله ربه تعالى{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} إلى قوله{فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [ محمد صلى الله عليه وسلم: 27 -28] .
قوله تعالى:{اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} .
الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء .
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه تعالى يجتبى من خلقه من يشاء اجتباءه .
وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه ،فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ} إلى قوله:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [ الحج: 77-78] .
وقوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [ فاطر: 32] الآية .
وبين في موضع آخر أن منهم آدم وهو قوله تعالى:{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [ طه: 122] .وذكر أن منهم إبراهيم في قوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} إلى قوله{شَاكِراً لأنعمه اجْتَبَاهُ} [ النحل: 120 -121] الآية .إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين .
وقوله تعالى:{وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله أي يرجع إلى ما يرضيه ،من الإيمان والطاعة ،ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الرعد{قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [ الرعد: 27] .