التّفسير
الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء:
بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين ،وأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضاً ،لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة ،وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة ،إنّها دعوة جميع الأنبياء أولي العزم ،وليس أصل التوحيد فحسب ،بل إن جميع دعوات الأنبياء في القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة .
تقول الآية: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ) والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم .
وأيضاً: ( والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) .
وبهذا الشكل فما كان موجوداً في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضاً و«ما يمتلكه الصالحون جميعاً تملكه لوحدك » .
إن عبارة ( من الدين ) تبيّن أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب ،بل في كلّ مجموعة الدين الإلهي ،فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة ،بالرغم من أن تكامل المجتمع الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل الناس ،وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان .
لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية اُخرى تبيّن أن الأصول العامة للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان .
فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء ،أنّ أوّل دعوة لهم كانت: ( يا قوم اعبدوا الله ){[4097]} .
وفي مكان آخر نقرأ: ( ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولا أن اعبدوا الله ) .
وأيضاً فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء ( الأنعام 130 ،الأعراف 59 ،الشعراء 135 ،طه 15 ،مريم 31 ) .
أمّا موسى وعيسى وشعيب( عليه السلام ) فيتحدثون عن الصلاة ( طه 14 ،مريم 31 ،هود 87 ) .
وإبراهيم يدعو إلى الحج ( الحج 27 ) .
وكان الصوم مشرّعاً عند جميع الأقوام السابقين ( البقرة 183 ) .
لذا ،وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأُخرى: ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) .
فهي توصي بأمرين مهمّين:
الأوّل: إقامة دين الخالق في كلّ الأرض ( وليس العمل فحسب ،بل إقامته وإحياؤه ونشره ) .
الثّاني: الإحتراز عن البلاء العظيم ،يعني الفرقة والنفاق في الدين .
وبعد ذلك تقول: ( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) .
فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين طويلة ،وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم ،إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللامشروعة محفوظة في الشرك ،في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين ،ويقف حائلا دون أهواء الطغاة ومظالمهم .
وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق ،كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضاً: ( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) .
ملاحظات
وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الإنتباه إليها:
1( شَرَع ) من كلمة ( شَرْع ) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح ،حيث يقال ( الشريعة ) للطريق المؤدي إلى النهر ،ثمّ استخدمت هذه الكلمة بخصوص الأديان الإلهية والشرائع السماوية ،لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها ،وهي طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة .
وبما أنّ الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة ،لذا فإنّ لهذا المصطلح تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدي نفس هذه الأعمال من الناحية المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري{[4098]} .
2لقد أشارت هذه الآية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط ( نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام ) لأن هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم ،أيّ أصحاب الدين والشرائع ،وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء .
3في البداية ذكرت الآية نوحاً ،لأنّ أوّل شريعة ( أو الدين الذي يحتوي على كلّ القوانين العبادية والإجتماعية ) نزلت عن طريقه ،وكانت هناك تعليمات وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه{[4099]} .
ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الرّوايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل نوح ( عليه السلام ) .
4من الضروري أن نشير إلى أنّه عند ذكر هؤلاء الخمسة ،تمّ ذكر نوح( عليه السلام )في البداية ثمّ نبيّ الإسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعد ذلك إبراهيم( عليه السلام ) وموسى( عليه السلام ) وعيسى( عليه السلام ) ،وهذا الترتيب بسبب أن نوحاً كان هو البادئ والفاتح ،ونبيّ الإسلام ذكر بعد ذلك بسبب عظمته ،وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم .
5من الضروري أيضاً أن نشير إلى هذه الملاحظة ،وهي أن القرآن يستخدم عبارة: ( أوحينا إليك ) بخصوص نبيّ الإسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،إلاّ أنّه استخدم عبارة «وصيّنا » بالنسبة الى الآخرين ،وقد يكون هذا الاختلاف في التعبير بسبب أهمية الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأُخرى .
6وردت عبارة ( من يشاء ) بالنسبة الى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية الآية ،والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤهلات الذاتية للرسل الإلهيين .
أمّا بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة ( من ينيب ) «والتي تعني الرجوع إلى الخالق والتوبة عن الذنب » حتى يتّضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع ،ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته .
جاء في الحديث القدسي «من تقرب منّي شبراً تقربت منه ذراعاً ،ومن أتاني يمشي أتيته هرولة »{[4100]} .
وقد ورد هذا الإحتمال أيضاً في تفسير الجملة الأخيرة ،وهو أن ( الإجتباء ) لا يختص بالأنبياء فحسب ،بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام المحمود عند الخالق .
وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولي العزم هو عدم التفرق في الدين ،فقد كانوا يدعون لذلك حتماً ،لذا فقد يطرح هذا السؤال: ما هو أساس كلّ هذه الإختلافات المذهبية ؟
/خ14