{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي على النار ،فها هم في هذا الموقف يقفون في مقامهم لتستعرضهم النار ،من دون حول وقوّة ،لتأكلهم وتلتهمهم بعد ذلك ،تماماً كما يقف المحكوم بالإعدام أمام أدوات الموت ،فتتحول النار ،في جوّ الآية التعبيري ،إلى كائنٍ حيٍّ قويٍّ يستعرض الظالمين في عملية تحديدٍ للخيارات التي يتخذها ضدهم وهم لا يستطيعون تحديد أيّ خيارٍ للردّ{خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} الذي يعيشون فيه الانسحاق والسقوط أمام المصير المحتوم ،بدلاً من أن يكونوا خاشعين لله من خلال التزامهم بطاعته في الدنيا ،وفي موقفهم أمامه يوم القيامة ،حيث يكون الخشوع الروحيّ انفتاحاً على ما ينتظرهم من رضوانه ونعيمه الدائم في جنته ،{يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} لا يملكون فتح عيونهم ليحدّقوا بها بنظرةٍ واسعةٍ مملوءةٍ بالمشهد الذي يواجههم ،لأنهم لا يطيقون تصوّر ما توحي به من رعب وفزع ،فيسترقون النظر استراقاً حباً بمعرفة ما فيها ،ويغضون الطرف هرباً منه ولو بعض الشيء .
خسارة المصير
..وهنا يقف المؤمنون في مواجهة هؤلاء الظالمين في نظرةٍ تقييميّة لموازين الخسارة التي كان يدّعي هؤلاء في الدنيا أنها لصالحهم ،فالمؤمنون في نظرهمأي الكافرينكانوا قد خسروا فرص التمتع بالملذات والشهوات التي ربحوها عندما كانوا يمسكون بزمام الدنيا بكل أوضاعها الحسية .
{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} عندما فقدوا كل شيء ،حتى راحة الموت ،التي هي راحة سلبية ،وواجهوا الخلود في عذاب جهنم التي لا يذوقون فيها إلا ما خبث من الطعام والشراب ،ويتحملون فيها أشد ألوان العقاب ..فلا مجال لأية راحةٍ أو لذّةٍ أو شهوةٍ أو جاهٍ أو ما إلى ذلك مما يستمتع به الناس في الجانب المادي والمعنوي من الحياة ،بل الأمرفي ذلكعلى العكس ..وتلك هي خسارة المصير التي لا مجال فيها لأيّ تعويض مستقبليٍّ بأيّ ربحٍ جديد ،بينما تمثل خسارة الدنيا في مقابل ربح الآخرة حالةً طارئةً من حالات الخسارة التي لا تمثل شيئاً أمام ما ينتظر الإنسان من الربح ..وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه عندما يريد أن يدخل في حسابات الربح والخسارة ،فلا يفكر بالربح الطارىء الزائل ،ليوجّه طموحاته نحوه ،ولا يفكر بالخسارة المحدودة ليسقط أمامها في مواقفه ،بل يفكر بالربح الدائم كطموحٍ كبيرٍ ،ويحذر من الخسارة الدائمة كمشكلةٍ كبيرة ..وذلكفي نظر المؤمنهو ربح الآخرة وخسارتها ..ولا سيّما إذا كانت المسألة لا تختص بهوحدهبل تشمل أهله الذين يعيش كل مشاكل الحياة ومتاعبها وتضحياتها من أجلهم ..ما يجعل خسارتهم خسارة مضاعفة بالنسبة إليه عندما تضاف إلى خسارة نفسه ،{أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِب عَذَابٍ مُّقِيمٍ} فذلك هو نهاية المطاف ومصير الكافرين الظالمين في الحياة