صفات الرسول وأتباعه
ما هي ملامح محمد رسول الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ؟وما هي ملامح أصحابه الذين تربّوا في أجواء رسالته ،وفي دائرة تعاليمه ومواقفه وأخلاقه ؟وما هي عناصر نجاح الحركة التي تريد أن تضغط على الواقع ليحتضن الدين كله ،ليكون لله وحده ؟
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} هذه هي الصفة التي يقدّمه الله بها إلى الناس ،ولم يقدمه بصفته العائلية أو النَسَبية ،لأن الله لا يريد للناس أن يرتبطوا به من خلال قيمة النسب والعلاقة بالعائلة ..لذا قدمه بصفته الرسالية ،ليبقى الناس مع شخص الرسول في خط الرسالة ،لا مع الشخصالذات في الخط الذاتي ،ليتفاعلوا مع رسالته ،وليمتد تفاعلهم بها إلى ما بعد حياته ،لأن الرسول يبقى برسالته من حيث الدعوة ومن حيث القدوة ،أمَّا الشخص ،فإنه يموت بموت الجسد ،ويتحول إلى مجرد ذكرى .{وَالَّذِينَ مَعَهُ} في حربه وسلمه ،في المسجد ،وفي ساحات يثرب كلها ،في سفره وحضره ،هؤلاء الذين عاشوا معه واعترفوا بنبوّته ،والتزموا بقيادته ،وشاركوا في دعوته ،وتألّموا معه ،وعاشوا المعاناة في خط مسيرته ...
بين دور القيادة ودور القاعدة
ويوحي إلينا الحديث عن أتباع الرسول في معرض الحديث عن الرسول نفسه ،أن الله يريد أن يثير أمامنا قاعدةً رسالية تطال علاقة القيادة بالقاعدة ،وهي أن القيادة لا تلغي دور القاعدة ،ولا تأثيرها في عملية صنع القوّة وتحريك النصر ،فالقيادة ليست هي كل شيءٍ ،ليكون الدور كله لها ،بل إن للقاعدة دوراً يتأكد على أساس التكامل مع القيادة ،والتفاعل مع حركتها ،والاندماج بأخلاقيتها الرسالية ،ليشكلا معاً مجتمعاً موحداً .
هذا ما ينبغي لنا أن نتمثله في وعينا الحركي في خط الرسالة ،فلا نستغرق في الشخص إلا من خلال الفكرة التي يحركها ويقود الحياة من خلالها ويطلّ من نافذتها على الآخرين ،بحيث يكون الشخص بطل الخط ولا تكون الرسالة خط البطل .
أصحاب الرسول أشدّاء رحماء
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} من موقع أنهم أشدَّاء على الكفر بالتزامهم الإيمان ودفاعهم عنه ،ووقوفهم ضد كل من يريد تأكيد قوة الكفر وإضعاف الإيمان ..وشدّتهم هنا ليست حالةً لا إنسانيةً ،تمثل القسوة والتعصب والانغلاق ،بل هي حالة إنسانيةً غرضها الانفتاح على الإنسان من مواقع الحق الذي يمثله الإيمان ،لإغناء قيم الحرية والعدالة وتحريكها في آفاق الانفتاح على الله ،لتكون عنصراً إيجابياً في معنى تعزيز الإنسانية بدلاً من أن تكون عنصراً سلبياً مضمونه الكفر .
وفي ضوء ذلك ،نفهم أن الشدّة هنا ناظرة إلى مواقع المسلمين في ساحة الصراع لا إلى موقعهم في ساحة الدعوة ،أو في ساحة التعايش ،أو في أجواء الحوار ،وهم كذلك{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} من خلال روحانية الإسلام الذي يشدّ جميع الناس إلى بعضهم البعض ،ليكونوا كالجسد الواحد ،تتفاعل المعاناة بين أعضائه ،وتنساب الرحمة في كل خلاياه ،انطلاقاً من الخط الاجتماعي الذي أراد الله للمؤمنين أن يسيروا عليه في بناء علاقاتهم الاجتماعية ،وهو خط التواصي بالمرحمة ،بكل ما يعنيه ذلك من تبادل المشاعر الرحيمة والأحاسيس الحميمة والتكافل الاجتماعي .
الراكعون الساجدون
{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} في مظهر العبودية الخالصة لله سبحانه ،الذي يعبّر عن ركوع الكيان كله له ،وسجود العقل والروح والوجدان والحياة كلها لعظمته ،بما يوحيه ذلك من روحانية فيّاضة بالطهر والحب والصفاء والنقاء ،{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} فهم مشدودون إلى الله في كل حاجات الحياة المادية والمعنوية ،لا يتطلعون إلى غيره في أيٍّ من حاجاتهم ،ويتطلعون إليه بأحلامهم في الحياة الآخرة حيث ينتظرون لطفه ورضوانه ،ما يجعل حياة المجتمع الإسلامي مرتبطةً بالله في جميع أوضاعها العامة والخاصة .
{سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وهي علامة الإيمان الواضح في وجوههم ،ذلك أن كثرة السجود على جباههم التي تلتصق بالأرض ،يترك تأثيراً بارزاً عليها يميزهم عن غيرهم .
مثلهم في التوراة والإنجيل
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ} في ما جاءت الإشارة فيهما إليهم عند الحديث عن رسول الله وأصحابه ،{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} وهو أفراخ الزرع المتولدة منه ،{فَآزَرَهُ} أي: فأعانه ،{فَاسْتَغْلَظَ} أي أخذ في الغلظة من حيث الحجم ،{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} أي استطال على ساقه ،{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} الذين ينظرون إليه فيجدون فيه زرعاً قويّاً يانعاً مثمراً .
وهذا تصوير للمجتمع المؤمن الذي يتكامل ويتنامى ويقوّي بعضه بعضاً حتى يشكل قوّة كبيرة في العدد والعدّة{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الذين تزعجهم الوحدة التي تشمل أفراد المجتمع الإسلامي والقوّة المتمثلة فيه{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} لأن الإيمان والعمل الصالح هما الأساس الذي يرتكز عليه رضى الله عن عباده ،وتنطلق منه المغفرة ،ويُستحق عليه الجزاء الكبير في ثواب الله سبحانه .
وقد أثير حديث حول شمول هذا الوعد الإلهي لجميع الصحابة أو اختصاصه بالمؤمنين العاملين بالصالحات ،وذلك بالسؤال عن كلمة «منهم » ؛هل هي للتبعيض ،كما هو الظاهر ،وهو رأي يتبناه أصحاب القول الثاني ،أم أنها بيانية ،كما يقول أصحاب القول الأول ،الذين يواجهون الردّ بأن «من » البيانية لا تدخل على الضمير مطلقاً في كلامهم ؟
ويضيف أصحاب القول الثاني إلى هذه المناقشة ،أنه «لو كانت العِدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولاً مطلقاً من غير اشتراطٍ بالإيمان والعمل الصالح وكانوا مغفورينآمنوا أو أشركوا ،وأصلحوا أو فسقوالزمته لزوماً بيّناً لغويّة جميع التكاليف الدينية في حقهم وارتفاعها عنهم ،وهذا مما يدفعه الكتاب والسنة ،فهذا الاشتراط ثابت في نفسه وإن لم يتعرض له في اللفظ ،وقد قال تعالى في أنبيائه:{وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ( الأنعام: 88 ) فأثبته في أنبيائه وهم معصومون ،فكيف فيمن هو دونهم »[ 1] .
ويردُّ أولئك على هذا التعليق ،أن الآية تتحدث عن واقع الصحابة ،لا عن حالةٍ مطلقةٍ لتخضع للاحتمالات المتنوّعة ،وبالتالي لتوضع لها الشروط هنا أو هناك على هذا الأساس ،فهي شهادةٌ من الله بأنهم واجدون لهذه الصفات ،بقرينة صدر الآية .
وقد نلاحظ على ذلك ،أن القرآن يتحدث عمن كان مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ،أنهم قد ينكثون وقد ينحرفون ،وقد تحدث عن الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ،وعن الذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ،وغيرهم ،في الوقت الذي لم يدّع أحد العصمة للصحابة لا نظرياً ،ولا واقعياً ،والله أعلم .