{ محمد رسول الله والذين معه} أي أصحابه{ أشداء على الكفار رحماء بينهم} أي لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم ،الصادّين عن سبيل الله ،وعندهم تَرَاحُم فيما بينهم ،كقوله تعالى:{[6656]}{ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} .
لطائف
الأولى – جوز في{ محمد رسول الله} أن يكونا مبتدأ وخبرا ،وأن يكون{ رسول الله} صفة ،أو عطف بيان ،أو بدلا ،{ والذين معه} عطف عليه .وخبرهما{ أشداء على الكفار} .
الثانية – قال الشهاب:قوله تعالى{ رحماء بينهم} تكميل ،لو لم يذكر لربما توهم أنهم لاعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال ،وعلى كل أحد .فلما قيل{ رحماء بينهم} اندفع ذلك التوهم ،فهو تكميل واحتراس ،كما في الآية المتقدمة ،فإنه لما قيل{ أذلة على المؤمنين} ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر ،وأنهم موصوفون / بالذل دائما ،وعند كل أحد ،فدفع بقوله:{ أعزة على الكافرين} فهو كقوله:
حليم إذا ما الحلم زَيَّنَ أهله *** على أنه عند العدو مهيبُ
الثالثة – قال المهايمي:تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه ،إذا اعتدلت قوتهم الغضبية ! بتبعية اعتدال المفكرة والشهوية ،إذ هم أشداء على الكفار ،لرسوخهم في صحة الاعتقاد ،بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده ،رحماء بينهم ،لعدم ميلهم إلى الشهوات .هذا باعتبار الأخلاق ،وأما باعتبار الأعمال ،فأنت{ تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} قال ابن كثير:وصفهم بكثرة العمل ،وكثرة الصلاة ،وهي خير الأعمال .ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل ،والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب ،وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل ،وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم ! وهو أكبر من الأولى ،كما قال جل وعلا{[6657]}{ ورضوان من الله أكبر} انتهى .
{ سيماهم في وجوههم} مبتدأ وخبر ،أي علامتهم كائنة فيها .وقوله تعالى:{ من أثر السجود} بيان للسيما ،كأنه قيل:سيماهم التي هي أثر السجود .أو حال من المستكنّ في{ وجوههم} .
قال الشهاب:وهي على ما قبله خبر مبتدأ تقديره:هي من أثر السجود .انتهى .
وهل الوجوه مجاز عن الذوات ،أو حقيقة ؟ في معناها تأويلان للسلف ،فعن ابن عباس{ سيماهم في وجوههم} يعني السمت الحسن .وقال مجاهد وغير واحد ،يعني الخشوع والتواضع .وقال منصور لمجاهد:ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ،فقال مجاهد ،ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون .وقال بعض السلف:( من كثرت صلاته بالليل ،حسن وجهه بالنهار ) .وقد رفعه ابن ماجه .والصحيح أنه موقوف .وقال بعضهم:إن للحسنة لنورا في القلب ،/ وضياء في الوجه ،وسعة في الرزق ،ومحبة في قلوب الناس .وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه:ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ،وفلتات لسانه .وروى الطبراني مرفوعا:( ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر ) – وإسناده واه ،لأن فيه العزرميّ وهو متروك - .
وروى الإمام أحمد{[6658]} عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ،ليس لها باب ولا كوة ،لخرج عمله للناس كائنا ما كان ) .
وأخرج أيضا{[6659]} عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إن الهدى الصالح ،والسمت الصالح والاقتصاد ،جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة ) .ورواه أبو داود أيضا .
والتأويل الثاني في الآية ،أن ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض ،أو ندى الطهور .روي ذلك عن ابن جبير وعكرمة .وقد كان ذلك في العهد النبويّ ،حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباؤه .
وكل من المعنيين من{ سيماهم} رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقوله تعالى:{ ذلك} أي الوصف{ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} أي صفتهم العجيبة فيها{ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} أي فراخه أو سنبله أو نباته{ فآزره} أي قوّاه{ فاستغلظ} أي فغلظ الزرع واشتد .فالسين للمبالغة في الغلظ ،أو صار من الدقة إلى الغلظ{ فاستوى على سوقه} أي استقام على قصبه .و ( السوق ) جمع ساق{ يعجب الزراع} أي يعجب هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه ،وحسن نباته ،وبلوغه وانتهائه ،الذين زرعوه .وقوله تعالى:{ ليغيظ بهم الكفار} تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم ،كأنه قيل:إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار .
/ لطائف:
الأولى:يجوز في قوله تعالى:{ ومثلهم في الإنجيل كزرع} وجهان:
أحدهما – أنه مبتدأ ،وخبره{ كزرع} فيوقف على قوله:{ في التوراة} فهما مثلان ،وإليه ذهب ابن عباس .
والثاني – أنه معطوف على{ مَثَلُهُمْ} الأول ،فيكون مثلا واحدا في الكتابين ،ويوقف حينئذ على{ في الإنجيل} ،وإليه نحا مجاهد والفراء ،ويكون قوله:{ كزرع} على هذا فيه أوجه:
أحدها – أنه خبر مبتدأ مضمر .أي مثلهم كزرع ،فسر به المثل المذكور في الإنجيل .
الثاني – أنه حال من الضمير في{ مثلهم} أي مماثلين زرعا هذه صفته .
الثالث – أنه نعت مصدر محذوف ،أي تمثيلا كزرع – ذكر أبو البقاء - .
قال الزمخشري:ويجوز أن يكون{ ذلك} إشارة مبهمة أوضحت بقوله{ كزرع} كقوله:{[6660]}{ وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء} – أفاده السمين - .
الثانية – قال السمين:الضمير المستتر في{ فآزره} للزرع ،والبارز للشطء .وعكس النسفيّ ،فجعل المستتر للشط ،والبارز للزرع .أي فقوى الشطء بكثافة الزرع وكثافته كثرة فروعه وأوراقه .قال الجمل:وما صنعه النسفي أنسب ،فإن العادة أن الأصل يتقوىّ بفروعه ،فهي تعينه وتقوّيه .
الثالثة – قال السمين:{ يعجب الزراع} حال .أي حال كونه معجبا ،وهنا تمّ المثل .
الرابعة- قال الزمخشري:هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام ،وترقّيه في الزيادة ،إلى أن قوي واستحكم ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ،ثم قوّاه الله بمن آمن معه ،كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ،ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع .
/ وهذا ما قاله البغويّ من أن ( الزرع ) محمد ،و ( الشطء ) أصحابه والمؤمنون ،فجعلا التمثيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته .
وأما القاضي فجعله مثالا للصحابة فقط .وعبارته:وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة ،قلّوا في بدء الإسلام ،ثم كثروا واستحكموا ،فترقّى أمرهم ،بحيث أعجب الناس .
قال الشهاب:ولكل وجهة .
الخامسة – قال ابن كثير:من هذه الآية انتزاع الإمام مالك رحمة الله عليه ،في رواية عنه ،تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم .قال:لأنهم يغيظونهم ،ومن غاظ الصحابة ،فهو كافر لهذه الآية .ووافقه طائفة من العلماء على ذلك – انتهى كلام ابن كثير- .
ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ،كما بسط في كتب العقائد ،وأوضحه النوويّ في شرح ( مقدمة مسلم ) ،وقبله الإمام الغزاليّ في كتابه ( فيصل التفرقة ) .وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتكفير والزندقة .وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك ،كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ .على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان ،مأجور غير مأزور ،ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها ،حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل ( جمع الجوامع ) .نعم ،إن التطرف والغلوّ في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين .وإذا اشتد البياض صار برصا .
{ وعد الله الذين آمنوا} أي صدقوا الله ورسوله{ وعملوا الصالحات منهم مغفرة} أي عفوا عما مضى من ذنوبهم ،وسيء أعمالهم ،بحسنها .{ وأجرا عظيما} أي ثوابا جزيلا ،وهو الجنة .