أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )}
المفردات:
أشداء: واحدهم شديد ،والمراد أقوياء غلاظ قساة على الكفار .
رحماء: جمع رحيم ،أي: متعاطفون متوافقون ،في قلوبهم رحمة ،كالوالد مع الولد ،كقوله تعالى:{أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ...} ( المائدة: 54 ) .
يبتغون: يطلبون في جد واجتهاد .
فضلا من الله: ثوابا ورضا .
سيماهم: علامتهم وأمارتهم التي تميزهم .
مثلهم: وصفهم العجيب ،الجاري مجرى الأمثال في الغرابة .
شطأه: فراخه ،أو فروعه التي تنبت حول الأصل .
فآزره: فأعانه وقواه .
فاستغلظ: فصار من الدقة إلى الغلظ .
فاستوى على سوقه: استقام على قصبه وأصوله ،والسوق: واحدها ساق .
تمهيد:
صفات جامعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ،فهم رحماء متعاطفون مع إخوانهم المسلمين ،وهم أشداء أقوياء في الحرب والجهاد في سبيل الله ،وهم راكعون ساجدون عابدون ،متبتِّلون بذكر الله ،وابتغاء فضله ورضوانه ،وقد انعكس الطهر والفضل والإيمان والعبادة من قلوبهم على صفحة وجوههم ،فترى أثر الصلاح والتقوى في وجوههم ،وترى النور والبهاء والرضوان على وجوههم من أثر السجود والطاعة لله ،ذلك مثلهم في التوراة ،أما صفتهم في الإنجيل فهي كزرع زرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأخرج فراخه أو فروعه فآزرت الأصل وقوته ،فاستغلظ الزرع واشتد وقوى ،واعتدل قائما على الساق القوية المعتدلة ،وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأصحابه وقوّتهم وبأسهم وطهارتهم ،ويمدحهم ويقول: ( الله الله في أصحابي ،لا تسبُّوا أصحابي ،من عاداهم فقد عاداني ،ومن عاداني فقد عادى الله ،ومن عادى الله يوشك أن يأخذه )13 .
وقد وعد الله المؤمنين منهم بالمغفرة ومحو الذنوب ،وبالأجر العظيم وبجنة عرضها السماوات والأرض .
التفسير:
29-{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .
أي: هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصف بالرسالة في الآيتين السابقتين ،وهنا يذكر الله تعالى اسمه:
{محمد رسول الله ...}
مبتدأ وخبر ،ما أعذبه وما أطهره وما أحلاه .
{والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...}
صحابته الأطهار الأبرار كانوا مثلا أعلى في النزاهة والعطاء والطهر ،ولم لا ،ومعلمهم صلى الله عليه وسلم هو معلم الإنسانية كلها ،هو النور المبين الذي أضاء جبين الدنيا ،فعلّم العرب ووحدهم ،وأخرجهم من الظلمات إلى النور ،ومن التفرق إلى الجماعة ،ومن العصبية الجاهلية إلى السكينة والإيمان والوقار ،وهؤلاء الصحابة تربية محمد صلى الله عليه وسلم ،هم أشداء أقوياء على الكفار في قتالهم وحربهم ،كانوا قلة ينتصرون على الكثرة .
قال تعالى:{ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} .( آل عمران: 123 ) .
وكانوا يهتدون بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ...} ( التوبة: 123 ) .
{رحماء بينهم ...}
متعاطفون متوادون متعاونون ،كما قال سبحانه:{أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ...} ( المائدة: 54 ) .
{تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ...}
من صفاتهم العبادة والصلاة والركوع والسجود ،والتبتل وصلاة الفرائض والنوافل وقيام الليل ،وهم في صلاتهم خاشعون خاضعون ،ابتغاء ثواب الله وفضله ورضوانه ،ومحبته ومودته ،وهم لذلك ذاكرون شاكرون حامدون ،لربهم ساجدون .
{سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ...}
وقد ظهر نور العبادة والطهر ،وعلامة التقوى والإيمان على وجوههم ،نورا وحبا وفضلا ،من أثر السجود والاقتراب من الله تعالى ،تلك صفتهم في كتاب موسى التوراة ( وهي العهد القديم ) .
أما صفتهم في الإنجيل ( وهي العهد الجديد ) ،فهي كزرع ونبات نام قوي ،أخرج فرعا صغيرا بجواره ،فآزره وقواه وأعانه ،أي أن الزرع قوى الشطء لأنه تغذّى منه ،واحتمى به ،وتحول من الدقة إلى الغلظ والقوة ،واستقام الفرع الجديد على أعواده وسيقانه ،يعجب الزراع لقوته وحسن منظره ،وكان صلى الله عليه وسلم محبا لأصحابه ،حريصا على تقويتهم وتطهيرهم وتعليمهم ليكونوا أساتذة الدنيا ،وليغيظ بهم الكفار ،فقد فتحوا الفتوح ،وقادوا الغزوات ،أو كانوا لحمتها وسداها ،حتى جاء نصر الله والفتح .
روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أرحم أمتي أبو بكر ،وأشدهم في أمر الله عمر ،وأصدقهم حياء عثمان ،وأقضاهم علي ،وأفرضهم زيد ،وأقرؤهم أُبيّ ،وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ،ولكل أمة أمين ،وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح )14 .
ويجوز أن يكون معنى هذه الفقرة ما يأتي:
{ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ...}
بدأ الصحابة قلة ضعيفة ثم اشتد أمرهم وتقوت جماعتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ،كزرع أخرج فسيله حوله ،مثل نبات القمح والشعير وغيرهما ،فيقوى الأصل بما حوله ويشتد ويتحول من الدقة إلى الغلظ ،ويستقيم على أصوله ؛فيعجب به الزراع لقوته وغلظه وحسن منظره .
والخلاصة: إن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وترقّيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم وأعجب الناس .
{ليغيظ بهم الكفار ...}
أي: إن الله تعالى قوّاهم وسدد خطاهم ليكونوا غصَّة في حلوق الكافرين ،إن يعتقدون أن الله متم بهم نوره ولو كره الجاحدون .
{وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} .
لقد وعد الله تعالى الذين آمنوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة لذنوبهم ،وستر عيوبهم ،ووعدهم بالجزاء العظيم في الدنيا والآخرة .
في أعقاب تفسير الآية
ذكر ابن جرير ،عن قتادة أنه قال: مكتوب في الإنجيل: ( سيخرج قوم يشبهون نبات الزرع ،يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف ،وينهون عن المنكر ) .
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف:
هو مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام ،وترقيه في الزيادة ،إلى أن قوي واستحكم ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ،ثم قواه الله تعالى بمن معه ،كما يقوى الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها .
وظاهر قول الزمخشري أن الزرع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ،والشطء هو الصحابة .
والخلاصة أن من المفسرين من رأى الآتي:
الزرع أمدّ الشطء ،فقوى الشطء واشتد و استوى على سوقه ،وهم الصحابة .
ومن المفسرين من رأى الآتي:
الزرع أخرج الشطء أو الفسيلة المجاورة له ،فآزرت الفسيلة الزرع ،فاستغلظ الزرع وقوي واشتد واستوى على سوقه .
والمراد أن الصحابة آزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوي بهم ،ولكل وجهة ،لكن سياق الآية في وصف الصحابة ،والمضمون والفحوى يؤيد أن الزرع آزر الشطء ،فاستغلظ الشطء وقوي واستوى على سوقه ،أي أننا نرجح أن الذي استغلظ هم الصحابة ،بدليل قوله تعالى في آخر الآية:
{وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} .
ومن عظمة المعلم العظيم أن يمد تلاميذه ويقويهم ليكونوا خير أمة أخرجت للناس .
روى البخاري ،ومسلم ،عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي ،فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ( نصفه ) )15 .رضي الله عنهم وأرضاهم .
قال ابن عباس: إن للمعصية ظلمة في القلب ،وسوادا في الوجه ،ونقصا في الرزق ،وبغضا في قلوب الخلق .
وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب ،وضياء في الوجه ،وسعة في الرزق ،ومحبة في قلوب الناس .
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ،وفلتات لسانه .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: من أصلح سريرته ،أصلح الله تعالى علانيته .
وروى الإمام أحمد ،عن أبي سعيد الخدري ،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ،ليس لها باب ولا كوّة ،لخرج عمله للناس ،كائنا ما كان )16 .
وروى أحمد ،وأبو داود ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الهدى الصالح ،والسَّمت الصالح ،والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة )17 .
وذكر بعض المفسرين أن معنى:{سيماهم في وجوههم من أثر السجود ...}
أنها علامة سوداء تظهر في الجبهة من كثرة السجود ،وكلام شيوخنا يفيد الآتي: إننا ينبغي ألا نتعمد إظهار هذه العلامة ،ولا نحرص على ذلك ،ومن تعمد فإنه يتشبه بالمنافقين ،فإذا ظهرت بدون تعمد فلا حرج ولا بأس .
ونضرب مثلا بأننا نهينا عن طلب الشهرة ،ونشر الأخبار الصالحة عن أنفسنا ،فإذا قال قائل: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانت لهم شهرة ،فأخبار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد بن الوليد وغيرهم ،تملأ الكتب ومجالس العلم ،فيقول أبو حامد الغزالي في كتابه ( إحياء علوم الدين ) ردا على ذلك ما يأتي: هؤلاء ما تعمدوا الشهرة ،وإنما جاءت الشهرة عفوا بدون قصد منهم ،فاقصد بعملك وجه الله تعالى وحده ،ولا تقصد الشهرة ولا الرياء ولا حسن السيرة بين الناس ،فإن جاءت هذه الأمور لك بدون قصد منك فلا حرج عليك ،وفي الحديث الصحيح: ( إنما الأعمال بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما نوى )18 .