يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب ، فقال:( محمد رسول الله ) ، وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال:( والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) ، كما قال تعالى:( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة:54] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار ، رحيما برا بالأخيار ، غضوبا عبوسا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن ، كما قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) [ التوبة:123] ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "، وقال:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "وشبك بين أصابعه كلا الحديثين في الصحيح .
وقوله:( تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ):وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله - عز وجل - والاحتساب عند الله جزيل الثواب ، وهو الجنة المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه تعالى ، عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال:( ورضوان من الله أكبر ) [ التوبة:72] .
وقوله:( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ):قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( سيماهم في وجوههم ) يعني:السمت الحسن .
وقال مجاهد وغير واحد:يعني الخشوع والتواضع .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا حسين الجعفي ، عن زائدة ، عن منصور عن مجاهد:( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) قال:الخشوع ، قلت:ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال:ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون .
وقال السدي:الصلاة تحسن وجوههم .
وقال بعض السلف:من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .
وقد أسنده ابن ماجه في سننه ، عن إسماعيل بن محمد الطلحي ، عن ثابت بن موسى ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار "والصحيح أنه موقوف .
وقال بعضهم:إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس .
وقال أمير المؤمنين عثمان:ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه .
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:من أصلح سريرته أصلح الله علانيته .
وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العرزمي ، عن سلمة بن كهيل ، عن جندب بن سفيان البجلي قال:قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر "، العرزمي متروك .
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما كان ".
وقال الإمام أحمد [ أيضا]:حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، حدثنا قابوس بن أبي ظبيان:أن أباه حدثه عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة "ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي ، عن زهير ، به .
فالصحابة [ رضي الله عنهم] خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم .
وقال مالك ، رحمه الله:بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون:"والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا ". وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ; ولهذا قال هاهنا:( ذلك مثلهم في التوراة ) ، ثم قال:( ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه [ فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ):( أخرج شطأه] ) أي:فراخه ، ( فآزره ) أي:شده ( فاستغلظ ) أي:شب وطال ، ( فاستوى على سوقه يعجب الزراع ) أي:فكذلك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ، ( ليغيظ بهم الكفار ) .
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله ، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال:لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك . والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم .
ثم قال:( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ) من "هذه لبيان الجنس ، ( مغفرة ) أي:لذنوبهم . ( وأجرا عظيما ) أي:ثوابا جزيلا ورزقا كريما ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل .
قال مسلم في صحيحه:حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ".
آخر تفسير سورة الفتح ، ولله الحمد والمنة .