{يََأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} وهذا نداء للمؤمنين كي يتقوا الله ويراقبوه في داخل نفوسهم ،في حركتهم في الحياة ،ولا يكونوا كالَّذين أُغلقت قلوبهم عن الله ،وانفتحت للشيطان ،فعاشوا تحت تأثير الشعور بالحريّة في ما يأخذون ويدعون ،من دون رقيب ولا حسيب .وتتحول التقوى بذلك إلى خطٍ للفكر وللحياة ،وإلى طابعٍ للشخصيّة ،وعنوان للحركة .{وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} ثُمَّ عقب ذلك بالطلب إليهم بأن يبتغوا إليه الوسيلة الّتي تُمثِّل الوصلة إليه والقرب منه ،وهي كناية عن الطرق الّتي يتحرك فيها الإنسان على أساسٍ من هدى الله ،والغايات الّتي يدعو الله النّاس إلى أن يبلغوها ،من خلال ما يتعاملون به من وسائل وما يخططون له من أهداف ،وذلك بالسير على منهاجه القويم وصراطه المستقيم ،في أحكامه الّتي شرّعها ،والأعمال الّتي دعا إليها ،والمواقف الّتي حثّ عليها ،وبذلك يصل الإنسان إلى طاعة ربِّه ،لأنَّ الله ليس جسماً يحدّه مكان ،ليكون الوصول إليه بالوسائل الماديّة الطبيعيّة ،بل هو فوق ذلك لا يحويه مكان ،ولا يحدّه زمان ،فلا بُدَّ للوصول إليه من الاستجابة له في أوامره ونواهيه .وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في سورة الإسراء:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}( 5657 ) .
وذلك تأكيدٌ للإنسان كي يدقق ويفتش في كل ما حوله ومَن حوله من الفرص المتاحة له في علاقته بالآخرين وخدمته لهم وعمله في حياتهم ،ومن الأشخاص الَّذين يُمثِّل الارتباط بهم ارتباطاً بخط الله لأنَّهم يمثلون معاني الحق والعدل والهدى ،ويتحركون في خط القيادة ،حيث يقودون النَّاس إلى القرب من طاعة الله والبعد عن معصيته .إنَّه القلق الروحي الإيجابي الَّذي يجعل الإنسان يتطلع إلى الله ،ليجعل الحياة كلها خطوات عمليّة تقرّبه إليه وتصله به في مواطن القرب والرحمة والرضوان ...هذا وقد حاول بعض المفسرين أن يستنطق كلمة الوسيلة لتشمل شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين ،لاعتبارها نوعاً من أنواع التقرّب إلى الله الَّذي نص عليه القرآن الكريم ،وبذلك تكون داخلة في المفهوم الواسع لكلمة الوسيلة .
ولكنَّنا نلاحظ على ذلك ،أنَّ الشفاعة حقيقة قرآنيّة إيمانيّة دلت عليها الآيات القرآنيّة الّتي جعلت الشفاعة لمن ارتضى مكرمة لعباده المقرّبين إليه الَّذين أراد الله أن يكرمهم بالشفاعة لمن أراد الله أن يغفر لهم ويرفع درجتهم في الآخرة ،ولا قيمة للحديث عن منافاة ذلك للتوحيد واقترابه من الشرك ،إذ التوسل بهؤلاء المقرّبين طلباً للشفاعة منهم إلى الله ليس توسلاً شخصياً موجهاً إليهم في خصائصهم الذاتية ،بل هو طلب من الله بقضاء الحاجة بكرامتهم عنده وأن يشفعهم به ،بما لهم من درجة الشفاعة إليه من خلال ما جعله من ذلك ،فليس للعبدوإن كان نبيّاًأيّ شأن ذاتي أو قدرة شخصيّة في ذلك ،وليس هناك أيّ توجه نحوه ،إلاَّ من خلال ما جعله الله من ذلك على طريقة استغفار الرسول لهم وطلبه من الله أن يغفر لهم ويقضي حاجتهم ،على هدى ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [ النساء:64] ،وفي طلب أخوة يوسف من أبيهم يعقوب أن يستغفر لهم:{قَالُواْ يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ *قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [ يوسف:9798] .
ولذلك فإنَّ التوسل بهذا المعنى يؤكد التوحيد ولا ينافيه .وقد وردت به الرِّوايات المتواترة من طرق الشيعة والسنَّة ،ولكن سياق الآية لا يشمل هذه القضية ،لأنَّها واردة في مقام تأكيد الارتباط بالله من حيث الإخلاص في العبوديّة له ،والاستقامة على خط العمل في مواقع رضاه والابتعاد عن مواقع سخطه ،وهذا ما توحي به كلمة التقوى والجهاد في الله حق جهاده ،ما يجعل المسألة منفتحةً على الله في حركة الإنسان نحو السبل الّتي تقربه إليه ،وتدفع به نحو الوصول إلى الفلاح في الدنيا والآخرة .وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب( ع ) في نهج البلاغة في قوله: «إنَّ أفضل ما توسَّل به المُتوسِّلون إلى الله سبحانه وتعالى ،الإيمانُ به وبرسولِه ،والجهادُ في سبيلِه ،فإنَّه ذرْوةُ الإسلام ،وكلمة الإخلاص فإنَّها الفطرة ،وإقامُ الصَّلاة فإنَّها الملَّة ،وإيتاء الزَّكاة فإنَّها فريضةٌ واجبةٌ ،وصومُ شهر رمضانَ فإنَّه جُنَّةٌ من العقاب ،وحجُّ البيت واعتمارُهُ فإنَّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذَّنب ،وصلةُ الرَّحم فإنَّها مثراةٌ في المال ومنسأةٌ في الأجل ،وصدقةٌ السِّرِّ فإنَّها تكفِّرُ الخطيئة ،وصدقة العلانية فإنَّها تدفع ميتة السُّوء ،وصنائعُ المعروفِ فإنَّها تقي مصارع الهوان » .
وإذا كان للشخص دور في معنى الوسيلة ،فإنَّ دوره هو أن يقرب العباد إلى الله بالدعوة والموعظة والتسليم والتزكية والاتجاه بالإنسان إلى الصراط المستقيم ،ليكون التقرّب إلى الله به بالعمل على طاعته ،وهذا ما أشار إليه العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان تعليقاً على ما ورد في تفسير القمي في قوله تعالى:{يََأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال: فقال: تقربوا إليه بالإمام .أقول: أي بطاعته فهو من قبيل الجري والانطباق على المصداق .وعلى هذا ،فإنَّ ملاحظته تلتقي بملاحظتنا من أنَّها ليست واردة في التوسل .والله العالم .
وينطلق نداء الدّعوة إلى الجهاد في سبيل الله ،{وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} ليكمل الصورة الحيّة للشخصيّة المؤمنة ،ليتحول خط التقوى إلى معاناة شاقة وجهاد شديد ،بالمال والنفس ،وبكل الطاقات الّتي تتحرك في نطاق قدرته بمختلف الأساليب الّتي يتبعها المجاهدون في جهادههم ،مما يبني حياة الإنسان على قاعدة صلبة ثابتة لا مجال فيها لاهتزاز ،ولا موضوع فيها لانحراف ،{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وذلك هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة .