{لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} هؤلاء هم الطليعة التي واجهت التحدي الكبير في التجربة الأولى في خط المواجهة بين المشركين والمسلمين ،عندما كان المسلمون قلةً في العدد وفي العدة وكانت الظروف الاجتماعية الضاغطة تحاصرهم من كل جانب ،في ما كان يملكه المشركون من مواقع القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ،وفي ما كانت الطروحات التي يطرحونها في مجال العقيدة مخالفة للواقع العقيدي والعبادي في حياة الناس الذين يعبدون الأصنام من موقع الضلال في العقيدة ،والتقديس للإرث الذي توارثوه عن الآباء والأجداد ،مما كان يفرض عليهم الحصار على أكثر من صعيد .
ولهذا كان ثباتهم يتميز بالعناصر المتنوعة في مجالها الروحي والفكري والعملي التي استطاعت أن تثبتهم في مواقع الاهتزاز ،فقد أخرجهم المشركون من ديارهم وأموالهم ،ليكون ذلك وسيلةً من وسائل الضغط عليهم ليسقطوا وينحرفوا ،فلم يسقطوا ولم ينحرفوا .وقد أرادوهم أن يتركوا الرسول ،ليحافظوا بذلك على حياتهم وأوضاعهم الخاصة ،فكان موقفهم أن نصروا الله في دينه ،ونصروا الرسول في موقفه ورسالته ،من دون أن يكون لهم أيّ طمعٍ بمالٍ أو جاهٍ ،بل كان كل همِّهم أن يحصلوا على فضلٍ من الله ورضوان .وذلك هو الدليل على صدقهم ،ليكون عنوان الصادقين هو العنوان الذي يتميزون به ،لأنهم صدقوا الله في القول والعمل ،فكان موقفهم صورةً لدعوتهم في خط الإيمان .
وهذا هو الذي جعل لهم الميزة على المسلمين الآخرين ،لأنهم آمنوا في المواقع الصعبة للإيمان ،وتحملوا الكثير من التضحيات في سبيل الله ،وكان واقعهم واقعٍ البؤس المادي ،لأنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم شيئاً من مواقع بلدانهم .فكان النبي( ص ) يوحي إلى المسلمين من الأنصار أن يجعلوا لهم بعض الميزة في العطاء ،بالرغم من أن التشريع لا يميزهم عن غيرهم ،ولكن المسألة تخضع للظروف الطارئة في التمييز الطارىء .
وهكذا ميّز الرسول المهاجرين على الأنصار في الأموال التي حصل عليها من بني النضير ،فقد جاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله( ص ) يوم بني النضير للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ،وتشاركونهم في هذه الغنيمة ،وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ،فقال الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها[ 6] .
وهكذا نرى من خلال حديث ابن عباس أن الرسول كان يريد أن يحل مشكلة هؤلاء المهاجرين ،ويوحي إلى الأنصار بمسؤوليتهم عنهم ،بمقاسمتهم أموالهم وديارهم ،أو بالتنازل لهم عن حصتهم في الفيء ،ما يوحي بمسؤولية كل جيل مسلم عن رعاية جيل الطليعة الإسلامية التي ساهمت في انطلاق الحركة وفي تثبيت القاعدة وامتداد الخط .فكان الأنصار في مستوى المسؤولية ،بحيث أعلنوا عن استعدادهم للمشاركة لهم في أموالهم وديارهم وعن تنازلهم لهم عن حصتهم في الفيء ،وذلك من خلال وعيهم للدور الكبير الذي قام به هؤلاء المهاجرون لمصلحة الإسلام والمسلمين ،مما جعلهم يشعرون لهم بما يشبه الاعتراف بالجميل .وهذا ما أكده القرآن في حديثه عن الأنصار في مشاعرهم الروحية وفي ممارساتهم العملية تجاه المهاجرين .