{مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} من الذين يقفون ضد الإسلام والمسلمين ويتحركون في مواقع التحدي ،سواء كانوا من بني النضير أو من غيرهم،{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} .والظاهر أن المراد بكونها لله هو الصرف في سبيل الله مما يحبه ويرضاه في ما يتقرب إليه من موارد الإنفاق العامة ،وبكونها لرسول الله هو ما يصرفه النبي على نفسه وعلى قضاياه المتصلة بموقعه الرسولي القيادي في موارده الخاصة والعامة،{وَلِذِي الْقُرْبَى} ورد في روايات أهل البيت( ع ) أن المراد بهم قرابة النبي( ص ) ،كما ورد ذلك في أكثر روايات المفسرين من غيرهم إلا من شذّ .
{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} قالت الإمامية إن المراد بهم أيتام بني هاشم ومساكينهم وابن السبيل ،وقال جميع الفقهاء من غيرهم هم يتامى الناس عامة وكذلك المساكين وابن السبيل ،وروى في مجمع البيان أن هناك رواية عن أهل البيت( ع ) توحي بالشمول[ 2] ،وهو الأقرب إلى طبيعة أجواء الآية والسياق .وقد وقع بين المفسرين خلاف حول موضوع هذه الآية وما قبلها ،هل هو واحد ليكون الحكم في الآية الثانية هو حكم الآية الأولى ،فلا يكون هناك أي نوعٍ من الإيحاء بالمصرف ،بل تبقى الآية في أجواء ولاية الرسول عليه ،باعتبار أنه هو الذي سلطه الله عليه ،من دون أن يقاتل المسلمون عليه ،فتكون الآية الثانية تحديداً للمصرف في ما يجب أن يقوم به الرسول في عملية التوزيع ،أو أن المراد به الجزية والخراج ،أو أن المراد به الغنيمة أياً كان مصدرها وقيل: إنه منسوخ بآية الأنفال رقم/14 .
ولكن الظاهر هو أنّ الموضوع واحد في الآيتين وهو الفيء ،وليس اختصاص الآية الأولى ببني النضير وشمول الثانية لأهل القرى موجباً لاختلاف الحكم ،لأن المسألة في الموضوع قد تكون من باب الخاص والعام الذي يكون الحديث فيه عن الخاص على أساس أجواء القصة ،وعن العام على أساس القاعدة العامة ،مع ملاحظة أن كل الأقوال الأخرى لا تملك شاهداً من السياق أو من غيره ،بينما يملك الوجه الذي استقربناه وحدة السياق ووحدة الموضوع ،وحاجة المورد إلى تحديد المصرف ،كما هي العادة الجارية في أمثاله مما يحصل عليه المسلمون من خلال الوقائع الحربية مع الآخرين .
وهناك رأي فقهي للشهيد المحقق السيد محمد باقر الصدر يؤكد فيه وحدة الموضوع ،ولكنه يجعل الفيء في المصطلح التشريعي شاملاً للأنفال بصورة عامة ،فإن المراد بها الأموال التي جعلها الله ملكاً للمنصب الذي يمارسه النبي والإمام ،كالأراضي الموات أو المعادن على قول ،وذلك بدليل ما جاء في حديث محمد بن مسلم عن الإمام الباقر( ع ) أنه قال:الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة من الدماء وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ،وما كان من أرضٍ خربةٍ أو بطون أوديةٍ فهو كله من الفيء[ 3] ،فإن هذا النص واضح في إطلاق اسم الفيء على غير ما يغنمه المسلمون من أنواع الأنفال .وفي ضوء هذا المصطلح التشريعي ،لا يختص الفيء حينئذٍ بالغنيمة المجردة عن القتال ،بل يصبح تعبيراً عن جميع القطاع الذي يملكه منصب النبي والإمام ،ولا بد من أن يضاف إلى ذلك ،القول بإلغاء خصوصية المورد بالفهم العرفي .
وعلى هذا الأساس ،نستطيع أن نستنتج أن الآية حدّدت حكم الأنفال بصورة عامة تحت اسم الفيء ،وبذلك نعرف أن الأنفال تستخدم في الشريعة العامة لفرض حفظ التوازن ،وضمان تداول المال بين الجميع ،كما تستخدم للمصالح العامة .
وقد نلاحظ على هذا الاستنتاج ،أن هناك حديثاً آخر رواه الشيخ الطوسي في التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله جعفر الصادق( ع ) قال:{وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآية ،قال: الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل ،والأنفال مثل ذلك وهو بمنزلته[ 4] .
فإن الظاهر من هذا الحديث أن هناك اختلافاً في المصطلح مع اتحاد الحكم فيهما .
{كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَآءِ مِنكُمْ} أي يتداولونه بينهم فلا يكون للفقراء منه شيء .وجاء في مجمع البيان: قال الكلبي: نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له: يا رسول الله خذ صفيك والربع ودعنا والباقي ،فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوا:
لك المرباع منها والصفاياوحكمك والنشيطة والفضول
فنزلت الآية ،فقالت الصحابة: سمعاً وطاعةً لأمر الله وأمر رسوله[ 5] .
فإذا صح هذا الخبر كانت الآية رفضاً للذهنية الطبقية التي تجعل الغنيمة في أمثال هذه الوقائع من نصيب الرؤساء الذين يملكون عادةً المال الكثير ،بلحاظ ما تفرضه الرئاسة من الامتيازات المادية والمعنوية لأصحابها ،وما تمنعه من موقع السلطة عن الفقراء من خلال انحطاط مركزهم الاجتماعي ،لعدم قدرتهم على المطالبة بحقوقهم في ما يبذلونه من جهدٍ في تفاصيل الحروب بما لا يبذله الرؤساء .وفي ضوء ذلك ،يتحرك هذا التعليل التشريعي ليواجه هذه الذهنية التي تتحرك في خطين ؛خط حرمان الفقراء من جهد المعركة ،والابتعاد بالأموال العامة عن المصالح العامة التي يحتاجها المسلمون في قضاياهم المتنوعة التي تحتاج إلى رصيدٍ عام في الحياة الإسلامية العامة ،وخط تجميع الثروة في أيدي الأغنياء لتكون محصورةً بهم ،فتؤكد امتيازاتهم في حياة المسلمين ،مما يمتد إلى أن تكون قضاياهم المصيرية خاضعةً لتأكيد أوضاعهم الطبقية البعيدة عن مصلحة المسلمين .
كيف نستوحي التشريع المذكور ؟ .
وقد نستطيع استيحاء الفكرة في هذا التشريع الخاص من أن عملية التوزيع في نطاق الأموال العامة تنطلق في هذه الدائرة الاقتصادية على أساس ما يمثله من هدفٍ اقتصاديٍ إسلامي كعنوانٍ بارزٍ للتخطيط الإسلامي للمجتمع الذي لا تتجمع فيه الأموال في أيدي جماعةٍ معينةٍ من الناس ،لأن ذلك قد يؤدي إلى إفساد حياة الناس في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،على أساس أن هذه الواقعة لا تحمل خصوصيةً معينةً في هذا الهدف بل تخضع للهدف الكبير .
وإذا امتد التفكير إلى الجانب التشريعي الإسلامي في نطاق هذا الموضوع ،فقد نستطيع أن نحدّد الكثير من مواقع حركة توزيع الثروة في الواقع الاقتصادي ،ليلاحق هذا الهدف في جانبه العملي الكثير من مفردات الأحكام التي لا ترى في الإقطاع مشكلةً شرعيةً ،كما تؤكد على شرعية الملكيات الكبيرة في حجم رأس المال النقدي ونحوه .
إننا ندعو إلى إثارة التفكير حول هذا الموضوع ،فقد نصل من خلاله إلى كثير من الحلول للمشاكل الواقعية في حركة الاقتصاد في واقع الناس .
{وَمَآ آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} وهذه هي القاعدة الإسلامية في التزام المسلمين بالإسلام ،فإذا كان الرسول هو مصدر التشريع في ما يبلّغه عن الله من وحي وما يشرعه من حكم ،في ما أنزله الله عليه أو في ما أوكل أمره إليه ،فلا بد للمسلمين من أن يأخذوا بما آتاهم الرسول ،وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ،لأن ذلك هو الذي يمثل الخط الإسلامي المستقيم المرتبط بالله والمنفتح على مواقع رضاه .
وهذا هو الذي يجسد النهج الحركي للمسلمين في ما يواجهونه من التيارات الفكرية والتشريعية المنحرفة عن فكر الإسلام وشريعته ،سواء كانت خاضعةً لعناوين سياسيةٍ أو اجتماعيةٍ أو اقتصاديةٍ ،فلا بد لهم من أن يرفضوها باعتبار أن أوامرها تختلف عن أوامر الرسول ،ونواهيها تختلف عن نواهيه ،ومفاهيمها تختلف عن مفاهيمه .وقد لا يكفي في السير معها أن تلتقي بعض عناوينها بعناوين الإسلام ،لأن القاعدة التي تحكم العنوان الإسلامي تختلف عن القاعدة التي تحكمها ،لأن الإسلام يؤدي إلى الله ،بينما لا تؤدي هي إليه ،بل تتبع خطوات الشيطان في ذلك كله .
إن هذه القاعدة التشريعية تؤكد على أصالة الموقف الإسلامي في شخصية المسلم ،بحيث يختزن في داخلها الفكرة التي تضع الحد الفاصل بينه وبين الفكر الآخر ،فيعرف المسلم مواقعه الأصيلة في القاعدة الإسلامية ،فلا يضيع في متاهات طروحات الآخرين على مستوى العناوين العامة ،وفي حركة المفردات التفصيلية ،{وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فإن قيمة التقوى عندما تكون حالةً في الفكر ونهجاً في الحركة ،أنّها تضبط للإنسان خطواته ،فلا تنحرف عن سواء السبيل ،وتثبت للإنسان مواقعه ،فلا تهتز أمام اهتزازات الأهواء والشهوات .وقد تحتاج التقوى في عمق تأثيرها الحركي في نفس الإنسان المؤمن إلى الشعور العميق بالمسؤولية من خلال التصور الروحي للعقوبة الإلهية الشديدة التي تنتظره إذا انحرف عن مواقع طاعة الله ،لأن القناعة وحدها بالفكرة لا تكفي في الالتزام بها إذا لم يكن هناك نوعٌ من العوامل النفسية المتحركة في نطاق الخوف من الله الذي يحرك في وعي الإنسان المؤمن الشعور الواعي بالرقابة الدائمة على نوازعه الخفية وممارساته السرية والعلنية من خلال الإحساس بالحضور الإلهي الدائم المهيمن على الأمر كله والسر كله .
الآية في خط التربية الروحية:
وهذا هو الذي يفرض على العاملين للإسلام في النطاق الفردي والاجتماعي ،على مستوى المجتمع والدولة ،أن يتحركوا في خط التربية الروحية التي تربي الإنسان على التقوى الروحية التي تنطلق في خط التقوى العملية ،لأن ذلك هو الذي يمكن أن يساهم في إنجاح التجربة الإسلامية ،وحمايتها من النوازع الذاتية والفئوية التي يمكن أن تنفذ إلى أعماق الحركة الإسلامية لتدفعها بعيداً عن الإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين .
ولذلك فإننا نؤكد على إثارة التقوى في الفكر في خط التدقيق في حدود المفاهيم والأحكام الشرعية ،بحيث لا تختلط بمفاهيم الآخرين وشرائعهم وتحريك التقوى في العمل ،لئلا ترتبك الخطوط العملية في مسألة وعي الواقع في نطاق ظروفه الموضوعية المحيطة به ،في ما يمكن أن تختلف فيه الاجتهادات والأوهام والمصالح ،فإن ذلك هو الذي يضمن المناعة الإيمانية على مستوى الشخص وعلى مستوى الحركة والواقع .