ثم قال:( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) أي:جميع البلدان التي تفتح هكذا ، فحكمها حكم أموال بني النضير ; ولهذا قال:( فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين ) إلى آخرها والتي بعدها . فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه .
قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان ، عن عمرو ، ومعمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، عن عمر رضي الله عنه ، قال:كانت أموال بني النضير مما أفاء الله إلى رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته - وقال مرة:قوت سنته - وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله ، عز وجل .
هكذا أخرجه أحمد ها هنا مختصرا ، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم - إلا ابن ماجه - من حديث سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الزهري به ، وقد رويناه مطولا ، فقال أبو داود ، رحمه الله:
حدثنا الحسن بن علي ، ومحمد بن يحيى بن فارس - المعنى واحد - قالا:حدثنا بشر بن عمر الزهراني ، حدثني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس قال:أرسل إلى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين تعالى النهار ، فجئته فوجدته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله ، فقال حين دخلت عليه:يا مال ، إنه قد دف أهل أبيات من قومك ، وقد أمرت فيهم بشيء ، فاقسم فيهم . قلت:لو أمرت غيري بذلك ؟ فقال:خذه . فجاءه يرفا فقال:يا أمير المؤمنين ، هل لك في عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ؟ فقال:نعم . فأذن لهم فدخلوا ، ثم جاءه يرفا فقال:يا أمير المؤمنين ، هل لك في العباس ، وعلي ؟ قال:نعم . فأذن لهم فدخلوا ، فقال العباس:يا أمير المؤمنين ، اقض بيني وبين هذا - يعني:عليا - فقال بعضهم:أجل يا أمير المؤمنين ، اقض بينهما وأرحهما . قال مالك بن أوس:خيل إلي أنهما قدما أولئك النفر لذلك . فقال عمر رضي الله عنه:اتئدا . ثم أقبل على أولئك الرهط فقال:أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا نورث ، ما تركنا صدقة ". قالوا:نعم . ثم أقبل على علي ، والعباس فقال:أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا نورث ، ما تركنا صدقة ". فقالا:نعم . فقال:فإن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس ، فقال:( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ) فكان الله أفاء إلى رسوله أموال بني النضير ، فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ منها نفقة سنة - أو:نفقته ونفقة أهله سنة - ويجعل ما بقي أسوة المال . ثم أقبل على أولئك الرهط فقال:أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض:هل تعلمون ذلك ؟ قالوا:نعم . ثم أقبل على علي ، والعباس فقال:أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض:هل تعلمان ذلك ؟ قالا:نعم . فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر:"أنا ولي رسول الله "، فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر ، تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبو بكر ، رضي الله عنه:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا نورث ، ما تركنا صدقة ". والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق . فوليها أبو بكر ، فلما توفي قلت:أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولي أبي بكر ، فوليتها ما شاء الله أن أليها ، فجئت أنت وهذا ، وأنتما جميع وأمركما واحد ، فسألتمانيها ، فقلت:إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يليها ، فأخذتماها مني على ذلك ، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك . والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فرداها إلي .
أخرجوه من حديث الزهري به . وقال الإمام أحمد:
حدثنا عارم ، وعفان قالا:حدثنا معتمر ، سمعت أبي يقول:حدثنا أنس بن مالك ، عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات ، أو كما شاء الله ، حتى فتحت عليه قريظة ، والنضير . قال:فجعل يرد بعد ذلك ، قال:وإن أهلي أمروني أن آتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه ، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاه أم أيمن ، أو كما شاء الله ، قال:فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطانيهن ، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وجعلت تقول:كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يعطيكهن وقد أعطانيهن ، أو كما قالت ، فقال نبي الله:"لك كذا وكذا ". قال:وتقول:كلا والله . قال:ويقول:"لك كذا وكذا ". قال:وتقول:كلا والله . قال:"ويقول:لك كذا وكذا ". قال:حتى أعطاها ، حسبت أنه قال:عشرة أمثال ، أو قال قريبا من عشرة أمثاله ، أو كما قال .
رواه البخاري ، ومسلم من طرق ، عن معتمر به . .
وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خمس الغنيمة . وقد قدمنا الكلام عليها في سورة "الأنفال "بما أغنى عن إعادته ها هنا ، ولله الحمد .
وقوله:( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) أي:جعلنا هذه المصارف لمال الفيء لئلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها ، بمحض الشهوات والآراء ، ولا يصرفون منه شيئا إلى الفقراء .
وقوله:( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) أي:مهما أمركم به فافعلوه ، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه ، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن العوفي ، عن يحيى بن الجزار ، عن مسروق قال:جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت:بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة ، أشيء وجدته في كتاب الله أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال:بلى ، شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قالت:والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول ! . قال:فما وجدت فيه:( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ؟ قالت:بلى . قال:فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة . قالت:فلعله في بعض أهلك . قال:فادخلي فانظري . فدخلت فنظرت ثم خرجت ، قالت:ما رأيت بأسا . فقال لها:أما حفظت وصية العبد الصالح:( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه )
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال:لعن الله الواشمات ، والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله ، عز وجل . قال:فبلغ امرأة في البيت يقال لها:"أم يعقوب "، فجاءت إليه فقالت:بلغني أنك قلت كيت وكيت . قال:ما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب الله . فقالت:إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته . فقال:إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه . أما قرأت:( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ؟ قالت:بلى . قال:فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه . قالت:إني لأظن أهلك يفعلونه . قال:اذهبي فانظري . فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا ، فجاءت فقالت:ما رأيت شيئا . قال:لو كانت كذلك لم تجامعنا .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سفيان الثوري .
وقد ثبت في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ". .
وقال النسائي:أخبرنا أحمد بن سعيد ، حدثنا يزيد ، حدثنا منصور بن حيان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر وابن عباس:أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أنه نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .
وقوله:( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) أي:اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره ; فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه ، وارتكب ما عنه زجره ونهاه .