{جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: أي: باذلين منتهى جهدهم ووسعهم فيها ،مجتهدين مظهرين الوفاء بها .قال الراغب: الجَهد والجُهد الطاقة والمشقة .وقيل: الجَهد بالفتح: المشقة ،والجهد: الواسع .وقال صاحب المجمع: الجَهد بالفتح: المشقة ،والجُهد بالضم: الطاقة ،وقيل: الجَهد بالفتح المبالغة ،فقوله:{جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: بالغوا في اليمين واجتهدوا فيه
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديبإسناده إلى محمد بن كعب قال: كلمت رسول الله( ص ) قريش ،فقالوا: يا محمد ،تخبرنا أن موسى( ع ) كانت معه عصا ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ،وأن عيسى( ع ) كان يحيي الموتى ،وأن ثمود كانت لهم ناقة ،فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيّ شيء تحبون أن آتيكم به ،فقالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً قال: فإن فعلت تصدقوني ؟قالوا: نعم ،والله لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين ،فقام رسول الله( ص ) يدعو ،فجاءه جبريل( ع ) وقال: إن شئت أصبح الصفا ذهباً ،ولكني لم أرسل آية فلم يصدّق بها إلا أنزلت العذاب ،وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ،فقال رسول الله( ص ): اتركهم حتى يتوب تائبهم ،فأنزل الله تعالى:{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} إلى قوله{مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} .
ونلاحظ ،أن النبي( ص ) كان يعلممن اللهأنه لم يُرسَل ليستجيب لمقترحاتهم مما يطلبونه من المعجزات ،فإن الله ينزل المعجزة على رسله من خلال الحاجة الملحّة التي يفرضها واقع التحدي من دون أن يطلبوا ذلك منه ،وهذا ما نلاحظه في المعجزات التي جاء بها الأنبياء .
ولذلك فقد لا يكون من الطبيعي أن يستجيب النبي( ص ) لطلبهم قبل أن يستشير الله في ذلك حتى لا يكون موقفه موقف ضعف أمامهم عندما يتراجع عن ذلك بعد أن أخذ منهم موثقاً أن يصدّقوا به إذا جاءهم بهذه الآية ،الأمر الذي يجعل الحجة لهم في عدم الإيمان به ،لأنهحسب الروايةلم يحقق لهم ما وعدهم به ،والله العالم .
تعليق صاحب الميزان على رواية النزول
وقد جاء في تفسير الميزانتعليقاً على هذه الروايةقال: القصة المذكورة سبباً للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات ،فقد تقدم أن ظاهرها الإخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات ،وأنهم ليسوا بمفارقي الشرك وإن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الإيمان ولم يشأ ذلك ،وإذا كان هذا هو الظاهر من الآيات ،فكيف ينطبق على ما جاء في الرواية من قول جبرئيل: إن شئت صار ذهباً فإن لم يؤمنوا عذبوا ،وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ؟
فالظاهر أن الآيات في معنى قوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [ البقرة:6] فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى القرآن{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} فكذّبهم الله بهذه الآيات وأخبر أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالاً عليهم .
منطق الكافرين الزائف
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاَْيَاتُ عِندَ اللَّهِ} .تعكس هذه الآية صورة حيّة من صور أولئك الكافرين الذين رفضوا الإيمان كمبدأ ،ولكنهم ما زالوا يحاولون تسجيل المواقف ضد الرسالة والرسول ،من أجل الإيحاء للبسطاء من النّاس ،بأنّهم ممن يبحثون عن الحقيقة من خلال البحث عن الدليل ،ولذلك فإنهم يقدّمون الاقتراحات التي تطلب من الرسول أن يأتيهم بآيةٍ ليؤمنوا بها ،تماماً كأيّ إنسان خالص النيّة ،مفتوح العقل ،فليس بينه وبين الإيمان إلاّ أن يرى الآية ليؤمن ..
ولكنّ القرآن يطرح القضيّة بكل بساطة ليتساءل:{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فما هو الأساس في ذلك ،وما هو الضمان ؟ولماذا يطرح القرآن هذا السؤال ؟لأن تاريخهم لا يوحي بمثل هذه الجديّة في طلب المعرفة من أجل الإيمان .فهل يملك النبيّ أمر تقديم آيةٍ يوميّةٍ ،يغيّر فيها النظام المألوف للكون ،لكل مقترح ؟وهل كانت المعجزات حاجةً شخصيةً لكل من يطلبها ،أم أن أمر ذلك بيد الله ،فهو الذي يحرّك الآيات في حركة النبوّات تبعاً لحكمته ؟ولماذا يريد هؤلاء الآية ؟أليؤمنوا ؟وهل يتوقف الإيمان على ذلك ؟إن النبي يقدّم لهم في القرآن آيةً تطرح التحدي ،ويقدّم لهم المنهج العقلي الذي يريد للعقيدة أن تتحرك من مواقع التفكير ،مما لو انطلقوا معه لاستطاعوا أن يصلوا إلى الحقيقة من أقرب طريق ،فلماذا لم يفكروا في ذلك كله ،ولماذا لم يدخلوا الحوار الهادىء الذي طرحه الرسول أمامهم كوسيلةٍ من وسائل الوصول إلى النتيجة الحاسمة في العقيدة ؟.
إن ذلك دليل على أنَّهم يحاولون القفز على المواقع ،لينتقلوا من موقعٍ إلى موقعٍ تبعاً للحاجة ،فإذا شعروا بأنهم مكشوفون في موقعٍ حاولوا أن ينتقلوا إلى موقعٍ آخر يختفون وراءه ،ليسجلوا نقطةً هنا ونقطة هناك .