ثم ،ما هي تصوراتهم عن الله ؟هل يفكرون فيه كما يفكرون ببعضهم البعض كطاقاتٍ محدودةٍ مغلوبةٍ في العلم والقدرة ،ليبيحوا لأنفسهم أسلوب اللاّمبالاة والابتعاد عن خط المسؤولية في الإيمان به والانسجام مع رسالته ورسوله ؟وكيف يسيرون مع هذا اللون من التفكير الذي ينطلق من ضيق الأفق ،وقلّة التأمّل وسطحيّة النظرة إلى الأمور ؟
وتتحرك آيات الله لتقدم الملامح الحقيقية للصورة المشرقة عن ذاتهتعالىحيث يعيش الإنسان الشعور برعاية الله له من خلال الشعور بإحاطة علمه بكل الأشياء دون استثناء ،حتى الصغير الصغير من الأشياء ،والخفيّ الخفيّ من القضايا ..وفي مساحات الزمن كله ،في الماضي والحاضر والمستقبل ..فهي في علمه سواءٌ ،لأن الموجودات كلها حاضرةٌ لديه من خلال خلقه لها وتدبيره لكل أوضاعها الجزئية والكليّة .
الله وحده يعلم الغيب
وتبدأ الآية بالحديث عن الغيب ،غيب الزمن ،وغيب الضمائر ،وغيب الأشياء الخفيّة ،فهو الذي يملك مفاتحه ،ولا يملك غيره من ذلك شيئاً ،إلا من خلال ما يطلع عباده عليه .{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ} فليس لأحد أن يدّعي علم ذلك لأحدٍ بطريقةٍ ذاتية إلا من خلال وسائله المألوفة وغير المألوفة التي يتيحها له ،{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} من كل الموجودات الحيّة وغير الحيّة ،ومن خلال ذلك يدبّر لها حركة وجودها بشكلٍ مباشر وغير مباشر ،فهي خاضعةٌ له مستسلمةٌ لإرادته ،{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} لأنها لا تسقط إلا بإذنه وبإرادته المتحركة في نطاق القوانين الحتمية التي تحكم الكون كله ،{وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} عنده ،في ما أحصاه في علمه ،وسجّله في اللوح المحفوظ .
الله عالم بالكليات والجزئيات
2قال:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} إلخ ...إن هذه الآية تصور الله عالم الغيب في كل خزائنه بما تحتويه من أسرار الغيب الإلهي الذي لا يملكه إلا هو ،وفي كل مفاتيحه التي تفتح كل المفردات الغيبية على نحو الكناية ،لأن من ملك مفتاح الشيء ملك الشيء من خلال قدرته على الدخول إليه والاستفادة مما فيه .
فلا علم للغيب إلا من خلاله ،لأنهوحدهالذي يملك مفاتحه وخزائنه ،فلا يجوز وصف أحد غيره بذلك إلا بما يرزقه الله من بعض مفردات علمه على سبيل التعليم لا على سبيل إعطاء القدرة بحيث يتحول الموضوع إلى طبيعةٍ فيه .
وهو الذي{وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}من الكائنات الحية والجامدة ،والذرّات الكبيرة والصغيرة ،وقطرات الحياة في أوزانها الخفيفة والثقيلة ،والمعادن المتنوعة المتناثرة في السطح وفي أعماق الأرض والبحار ،{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} فهو الذي أعطى الأغصان أوراقها ،وهو الذي وضع القوانين التي تسقطها على الأرض وتذروها في الهواء ،وهو الذي يحصي عددها عندما توجد وعندما تسقط ،{وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} وهكذا تتناثر الحبوب الصغيرة في كل المزروعات الممتلئة بالحب ليحيط بها علمه ،وهي تخضر في سنابلها ،ثم وهي تذوي وتتساقط في حالة يبسها في حالة الحصاد وغيرها ،حتى أنه يعلم الحبة التي تحملها النملة إلى حجرها في أعماق الأرض .
وهكذا يتّسع علمه للإنسان بكل خلاياه في نموّها وتجددها ،وبكل ما يشتمل عليه الجسم من عوالم وحركات ونظم وسننٍ وقوانين وأوضاع ،وبكل الفكر الإنساني الذي يتحرك به العقل والإحساس والفطرة ،وبكل الغرائز الحيوانية التي تحرّك الحيوانإنساناً أو غير إنسانإلى النتائج المنفتحة على شروط وجوده واستمراره .
هو العالم علماً حضورياً في تفاصيل كل الأشياء الموجودة في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر الأشياء ،وفي حركة الرياح بما تحمله من البذور التي توزعها في الأرض هنا وهناك ،وتنثرها في أعماق الأرض وسطوحها ،حتى تكون بمثابة الاحتياطي لكل عشب جديد وورود جديدة وخضرة جديدة .
إنها الآية التي تتحدث عن علم الله بالكليات والجزئيات معاً ،وعن رقابته من خلال علمه المطلق ،على كل شيء في الإنسان في حركته الخفية والمعلنة في السرّ والعلن ،ليشعر الإنسان بالحاجة إلى الانضباط العملي أمام ربه الذي يعلم كل شيء ويحيط بكل شيء ،وعن حاجة الإنسان إلى الابتهال إليه في كل حاجاته وفي كل مخاوفه في الليل والنهار والحاضر والمستقبل ،لأنه العالم بذلك كله ،وهووحدهالقادر على أن يحقق له ما يشاء منها وأن يحميه مما يخافه منها .وهكذا تكون للآيات عدة جوانب إيحائية في حركة الإنسان الفكرية والعملية .أما كلمة{فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} فالظاهر أن المقصود بها التعبير عن علم الله الواسع الذي لا حدَّ له بكل الموجودات .
وربما احتمل البعض أن المراد به عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شيء .
تلك هي الصورة التي يعيش الإنسان معها هذا الامتداد الشامل المطلق في علم الله وإحاطته بالمخلوقات ،فيحس بالأمن والطمأنينة والثقة بالله الذي يحيط بكل شيء ،وبذلك يمكن أن يحفظه من كل شيء ،لأن علم الله ليس علماً يكشف الصورة ويوضحها ،بل هو العلم الذي يعطي الأشياء صورتها ،ويحقق لها وجودها ،ويرعى لها حركتها ،ويهيمن على كل أوضاعها ،إنه علم الخالق القادر ،وذلك هو ما يضمن إحساس الإنسان بالأمان المطلق معه .