التّفسير
أسرار الغيب:
في هذه الآيات يدور الكلام حول علم الله وقدرته وسعة حكمه وأمره ،وهي تشرح ما أجملته الآيات السابقة .
تشرع الآية في الكلام على علم الله فتقول: ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ) .
«مفاتح » جمع «مفتح » ( بكسر الميم وفتح التاء ) وهو المفتاح ،أمّا إِذا كانت بفتح الميم فهي بمعنى الخزانة التي تختزن فيها الأشياء .
وعلى الأوّل يكون المعنى: إنّ جميع مفاتيح الغيب بيد الله .
وعلى الثّاني يكون المعنى: إنّ جميع خزائن الغيب بيد الله .
ويحتمل أن يكون المعنيان قد اجتمعا في عبارة واحدة ،وكما هو ثابت في علم الأُصول ،فإِن استعمال لفظة واحدة لعدة معان لا مانع منه ،وعلى كل حال فهاتان الكلمتان متلازمتان ،لأنّه حيثما كانت الخزانة كان المفتاح .
وأغلب الظن أنّ «مفاتح » بمعنى «مفاتيح » لا بمعنى «خزائن » لأنّ الهدف هو بيان علم الله ،فتكون المفاتيح وسائل لمعرفة مختلف الذخائر وهو أنسب بالآية ،وفي موضعين آخرين في القرآن ترد كلمة «مفاتح » بمعنى المفاتيح{[1194]} .
ثمّ لتوكيد ذلك أكثر يقول: ( ويعلم ما في البرّ والبحر ) .
«البرّ » كل مكان واسع فسيح ،وتطلق على اليابسة ،«والبحر » كذلك تعني المحل الواسع الذي يتجمع فيه الماء ،وتطلق على البحار والمحيطات وعلى الأنهر العظيمة أحياناً .
فالقول بأنّ الله يعلم ما في البر والبحر ،كناية عن إِحاطته بكل شيء ،وهذه الإِحاطة بما في البرّ والبحر إِنّما تمثل في الحقيقة جانباً من علمه الأوسع .
فهو عالم بحركة آلاف الملايين من الكائنات الحية ،الكبيرة والصغيرة ،في أعماق البحار .
وهو عالم بارتعاش أوراق الأشجار في كل غابة وجبل .
وهو عالم بمسيرة كل برعمة وتفتح أوراقها .
وهو عالم بجريان النسيم في البوادي ومنعطفات الوديان .
وهو عالم بعدد خلايا جسم الإِنسان وكريات دمه .
وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإِلكترونات في قلب الذّرة .
وهو عالم بكل الأفكار التي تمرّ بتلافيف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا ...نعم أنّه عالم بكل ذلك على حدّ سواء .
لذلك فإِنّه يؤكّد ذلك مرّة أُخرى فيقول: ( وما تسقط من ورقة إِلاّ يعلمها ) .
أي أنّه يعلم عدد الأوراق ولحظة انفصال كل ورقة عن غصنها وطيرانها في الهواء ،حتى لحظة استقرارها على الأرض ،كل هذا جلي أمام علم الله .
كذلك لا تختفي حبّة بين طيات التراب إِلاّ ويعلمها الله ويعلم كل تفاصيلها: ( ولا حبّة في ظلمات الأرض ) .
التركيز هنافي الحقيقةعلى نقطتين حساستين لا يمكن أن يتوصل إِليهما الإِنسان حتى لو أمضى ملايين السنين من عمره يرتقي سلم الكمال في صنع أجهزته وأدواته المدهشة .
ترى من ذا الذي يستطيع أن يعرف كم تحمل الرياح معها في هبوبها على مختلف أصقاع الأرض في الليل والنهار ،من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها ؟وإِلى أين تحملها وتنشرها ،أو تدسها في التراب حيث تبقى سنوات مختفية ،حتى يتهيأ لها الماء فتنبت وتنمو ؟
من ذا الذي يعلم كم من هذه البذور في كل أنحاء الدنيا تحمل عن طريق الإِنسان أو الحشرات في كل ساعة من نقطة إِلى نقطة أُخرى ؟
أي دماغ الكتروني هذا الذي يستطيع أن يحصي عدد أوراق الشجر التي تسقط كل يوم من أشجار الغابات ؟انظر إِلى غابة من الغابات في الخريف ،وخاصّة بعد مطر شديد أو ريح عاصفة ،وتطلع إِلى مشهد سقوط الأوراق المتواصل البديع ،عندئذ تتكشف لك هذه الحقيقة ،وهي أنّ علوماً من هذا القبيل لن تكون يوماً في متناول يد الإِنسان .
إِنّ سقوط الورقةفي الحقيقةهو لحظة موتها ،بينما سقوط البذرة في مكمنها من الأرض هو لحظة بدء حياتها ،وما من أحد غير الله يعلم بنظام هذا الموت وهذه الحياة ،وحتى أنّ كل خطوة تخطوها البذرة نحو حياتها وانبعاثها وتكاملها خلال اللحظات والساعات ،جلية في علم الله .
إنّ لهذا الموضوع أثراً «فلسفياً » وآخر «تربوياً »:
أمّا أثره الفلسفي ،فينفي رأي الذين يحصرَون علم الله بالكليات ،ويعتقدون أنّه لا يعلم عن الجزئيات شيئاً ،وفي الآية هنا تأكيد على أنّ الله يعلم الكليات والجزئيات كلها .
أمّا أثره التربوي فواضح ،لأنّ الإِيمان بهذا العلم الواسع لله يقول للإِنسان: إِنّ جميع أسرار وجودك ،وأعمالك ،وأقوالك ونياتك ،وأفكارك كلّها بيّنة أمام الله ،فإِذا آمن الإِنسان حقّاً بهذا ،فكيف يمكن له أن لا يكون رقيباً على نفسه ويسيطر على أعماله وأقواله ونياته !
وفي ختام الآية يقول تعالى: ( ولا رطب ولا يابس إِلاّ في كتاب مبين ) .
تبيّن هذه العبارة القصيرة سعة علم الله اللامحدود وإحاطته بكل الكائنات بدون أي استثناء ،إِذ أن «الرطب » و«اليابس » لا يقصد بهما المعنى اللغوي ،بل هما كناية عن الشمول والعمومية .
وللمفسّرين آراء متعددة في معنى: «كتاب مبين » ،ولكنّ الأقوى أنّه كناية عن علم الله الواسع ،أي انّ كل الموجودات مسجلة في علم الله اللامحدود ،كما أنّه تفسر بكونه «اللوح المحفوظ » نفسه ،إِذ لا يستبعد أن يكون اللوح المحفوظ هو صفحة علم الله .
وثمّة احتمال آخر عن معنى «كتاب مبين » وهو أنّه عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شيء .
جاء فيما روي عن أهل البيت( عليهم السلام ) أنّ «الورقة » الساقطة بمعنى الجنين الساقط ،و«الحبّة » بمعنى الابن ،و«ظلمات الأرض » بمعنى رحم الأُم ،و«رطب »ما بقي حياً من النطفة ،و«يابس » ما تلاشى من النطفة{[1195]} .
لا شك أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الجمود على المعاني اللغوية للآية ،إِذ إِنّ معنى «الورقة » و«الحبّة » و«ظلمات الأرض » و«الرّطب » و«اليابس » معروف ،ولكنّ أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) بهذا التّفسير أرادوا أن يوسعوا من آفاق نظرة المسلمين إِلى القرآن ،وأن لا ينحصروا في إِطار الألفاظ ،بل يتوسعوا في نظرتهم حين توجد قرائن على هذا التوسع .
الرّواية أعلاه تشير إِلى أنّ معنى «الحبّة » لا ينحصر في بذور النباتات ،بل يشمل أيضاً بذور النطف الإِنسانية .