في الآية الثانية ينتقل الكلام إِلى إِحاطة علم الله بأعمال الإِنسان وهو الهدف الأصلي وإِلى بيان قدرة الله القاهرة ،لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأنّ الله هو الذي يقبض أرواحكم في الليل ،ويعلم ما تعملون في النهار: ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) .
«توفى » تعني استرجع ،فالقول بأنّ النوم هو استرجاع للروح يعود إِلى أنّ النوم أخو الموت ،كما هو معروف ،فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ ،وانقطاع تام في ارتباط الروح بالجسد ،بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف في هذا الارتباط ،وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت{[1196]} .
«جرحتم » من «جرح » وهي هنا بمعنى الاكتساب ،أي أنّكم تعيشون تحت ظل قدرة الله وعلمه ليلا ونهاراً ،وانّ الذي يعلم بانفلاق الحبّة ونموها في باطن الأرض ،ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أي مكان وزمان ،يعلم بأعمالكم أيضاً .
ثمّ يقول: إِنّ نظام النوم واليقظة هذا يتكرر ،فأنتم تنامون في الليل ( ثمّ يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ){[1197]} أي ثمّ يوقظكم في النهار ..وتستمر هذه العملية حتى نهاية حياتكم .
ويبيّن القرآن النتيجة النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي: ( ثمّ إِليه مرجعكم ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون ) .
وفي الآية الثّالثة توضيح أكثر لإِحاطة علم الله بأعمال عباده وحفظها بكل دقة ليوم الحساب ،بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإِحصاء أعمالهم: ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) .
سبق أن قلنا إِنّ «القاهر » هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية قوّة ،ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلا .
أمّا كلمة «الغالب » فليست فيها هذه الخصوصية ،فهي عامّة واسعة المعنى .
«حفظة » جمع «حافظ » وهم هنا الملائكة الموكّلون بحفظ أعمال الناس ،كما جاء في سورة الانفطار ،الآيات 1013: ( إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون ) .
ويرى بعض المفسّرين أنّهم لا يحفظون أعمال الإِنسان ،بل هم مأمورون بحفظ الإِنسان نفسه من الحوادث والبلايا حتى يحين أجله المعين ،ويعتبرون ( حتى إِذا جاء أحدكم الموت ) بعد «حفظة » قرينة تدل على ذلك ،كما يمكن اعتبار الآية ( 11 ) من سورة الرعد دليلا عليه كذلك{[1198]} .
ولكنّ بالتدقيق في مجموع الآية التي نحن بصددها نتبيّن أنّ القصد من الحفظ هنا هو حفظ الأعمال ،أمّا بشأن الملائكة الموكّلين بحفظ الناس فسوف نشرحه بإِذن الله عند تفسير سورة الرعد .