{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً} ،وقد ابتلاهم الله بظروف صعبةٍ ،ومشاكل معقدة في حياتهم ،وواجهوا ذلك كله بالإيمان والصبر والمسؤولية العالية ،حتى استطاعوا أن يقدّموا من أنفسهم النموذج الأمثل للإنسان المؤمن الصابر أمام المصاعب والتحديات ،والواثق بالله في ما ينتظره من فرج وانتصار .
وقد قدّم الله سبحانه لكل نموذج من هؤلاء وصفاً خاصاً يتناسب مع طبيعة الدور الذي أوكله إليه ..فمع النموذج الأوّل جاءت فقرة:{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في ما تفرضه حركة السلطة العادلة والقوّة المسؤولة من إحسانٍ للناس في تقديم العدالة لهم ،وتقوية ضعفهم .وفي النموذج الثاني ،جاءت فقرة:{كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} في ما توحي به كلمة الصلاح من معانٍ روحيّةٍ تلتقي بالصفاء والوداعة والربّانية في القول وفي العمل ،والزهد في مواجهة شهوات الدنيا ..وفي النموذج الثالث:{وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} لما يحتويه البلاء من اختبارٍ للطاقة الروحية ،وفي ما ينتهي إليه من انتصارٍ على تحدياته ومشاكله ،وفي ما ينطلق معه من مواقف وتطلعات ،ما يعطي معنى الفضل على الجوّ الذي يحيط بهم ،والتفضيل على الناس الذين يعيشون معهم ..
وعلى ضوء هذا ،يمكننا أن نقرر أن المراد بالعالمين هنا ،هم الناس الذين يعاصرونهم ،وليس تفضيلهم على جميع الناس ممن تقدمهم أو تأخر عنهم ،لأن ذلك يستلزم أن يكونوا أفضل من جميع الأنبياء ،حتى أولي العزم ،وهذا مما لم يلتزم به أحدٌ ،أمّا احتمال أن تكون الفقرة راجعة إلى جميع الأنبياء ،فهو خلاف ظاهر التنويع الذي ألمحنا إليه في كل آية مع كل نموذج تعرضت إليه الآيات ،والله العالم .
كيف نفهم التنويع في نماذج الأنبياء ؟
وقد يقول قائل: إن الالتزام بهذا التنويع في نماذج الأنبياء قد يعني التوزيع في مقومات الشخصية لدى الأنبياء بين زاهدٍ لا يملك السلطة ،وسلطانٍ لا يعيش الزهد ،ومبتلٍ لا يحمل المسؤولية ،وهذا ما قد لا ينسجم مع طبيعة الرسالة التي يحملها كل واحد منهم من أجل تغيير المجتمع في الواقع الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي على هدى الله في ما يأمر به أو ينهى عنه ،ما يفرض أن لا يترك الرسول أيّ فراغٍ في حياة الناس ،لئلا تبقى النظرات المختلفة بمثابة نقاط ضعفٍ في حركة الإنسان في الحياة ،ولذلك فإن من المفروض أن تكون مهمة الرسول شاملةً ،ما يفرض أن تكون شخصيته متكاملةً في طبيعتها وأخلاقيتها ودورها العملي .
ويجاب عن ذلك ،بأن إبراز دور معيّن في شخصية هذا النبي أو ذاك ،لا يعني تحديد هذه الشخصية ،بل كل ما يعنيه هو تميّز المرحلة التي يعيشها بهذا الدور لحاجتها الواقعية إليه ..وبذلك فلا مانع من اشتراكهم في مستوى حمل المسؤولية أمام الله تجاه الناس ،وفي الصفات الذاتية التي تمثّل العمق الروحيّ في طبيعة الشخصية ،وفي الحركة العملية في الدعوة إلى الله وفي الجهاد في سبيله .
إن التنوّع في الخصوصيات الذاتية تابع لتنوع الأدوار والظروف التي يعيشها الإنسان في ساحة الواقع ،وهذا مما يمكن أن نستفيده في مجال حركة العاملين في سبيل الله ،فقد يعيش البعض منهم في منطقةٍ تفرض عليهم ظروفها أن يدخلوا في إطار عمليّ قويٍّ يمارسون فيه السلطة والحاكميّة ،لأن قضية التحديات تفرض المواجهة على هذا المستوى ،وقد يعيش البعض منهم في منطقةٍ أخرى تفرض عليهم ظروفها أن يعيشوا الزهد في المظهر والانقطاع عن الدنيا في حركة الحياة ،لأن هذا هو السبيل الموحي بالروحية الصافية التي تحرّك المشاعر ،وتثير الأفكار ،وتحقّق الثقة ،وتوصله إلى الهدف الكبير في إيصال الرسالة إلى أفكار الناس ومشاعرهم ..
وقد تفرض عليهم الظروف أن يعيشوا المشاكل والتحديات وصنوف البلاء والحياة الصعبة ،ليدلّلوا على إمكانية الثبات أمام صعوبات الحياة ،وعلى واقعية الرسالة أمام تحديات الكفر والانحراف .
وهكذا تكون قضية التنوع مرتبطة بالجانب البارز من شخصية كلٍّ منهم ،مع توفر العناصر الآخرى في شخصية كل منهم .