ثم يعود بنا إلى الأنبياء{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} الذي يبين للناس خط الحياة الفكري والعملي{وَالْحُكْمَ} والحكم الذي يمثل الميزان الفاصل بين الحق والباطل والخير والشر ،ليقوم الناس بالقسط{وَالنُّبُوَّةَ} ..وبذلك لا تكون مسؤولية الأنبياء هي التبليغ والإنذار فقط ،وإنما تمتد إلى التطبيق والتنفيذ ،بل هناك دور آخر ،وهو الحكم بين الناس في ما يختلفون فيه ،وفي ما يتنازعون عليه ،ويتحركون فيه من شؤونٍ وشجون .
وليس الكتاب الذي آتاهم إياه شأناً ذاتياً ينطلقون فيه من خبرةٍ ذاتيةٍ وثقافةٍ شخصية ،بل هو ممتدٌ من خط النبوّة التي آتاهم الله إيّاها ،فيما أوحى به إليهم من آياته وشرائعه وإحكامه .
وهكذا يلتقي في شخصية النبيّ الذي اختاره الله ،دور النبيّ الذي يحمل الكتاب وحياً من الله ،ويعيش النبوّة رسالةً في حركة الحياة من حوله ،لما يفرضه ذلك الدور من وصل بين عالمي الحس والغيب في حياة الإنسان ،إضافةً إلى ذلك دور الحاكم الذي يحرّك الرسالة في الواقع التنفيذي الذي تلتقي فيه النظرية بالتطبيق ،في ما أراده الله للإنسان من القيام بالقسط في مجالات حياته العامة والخاصة ،فكان الكتاب هو الذي يخطط شرعة العدل ،وينظّم ركائزه وقواعده ،وكان النبيّ هو الذي يطبّق وينفّذ ويحكم ،ليتحول الخط إلى حركة حياة ،وبرنامج عمل ،وخط سير .
وفي ضوء ذلك ،نعرف أنَّ الحكم لا ينفصل عن دور النبوّة ،كما يخيّل للبعض الذي يحاول أن يثير في الفكر الإسلامي قضيَّة الفصل بين الرسالة والحكم ،ليوحي بأنّ دور الأنبياء هو الإبلاغ والإنذار والتبشير والتذكير ،لا دور التنفيذ والتطبيق والضغط ،بل ربما نستوحي من المهمة النبويّة أنها تقود عملية التغيير بالفكر والممارسة والحركة ،ولا تكتفي بالإيحاء الفكري بذلك ،لأن الأنبياء في وعيهم للخطّة الفكرية أو التشريعية ،هم من يعرف خطة التطبيق ،فهم أولى الناس بهذا الدور في ما يراد له من حفظ سلامة الخط ووضوح الرؤية .
وإذا كان بعض الأنبياء لم يبلغوا هدفهم في تغيير الواقع على أساس قضية الحكم الشامل ،فليس ذلك من جهة أنَّ الهدف لا يلتقي بمواقع الحكم ،بل لأنّ الظروف الموضوعية المحيطة بهم لم تحقّق لهم الوصول إلى النتائج المرجوّة ،لأنّ أدوات التغيير لم تستكمل عملية الإعداد والتنفيذ ،أو لأنّ الساحة العملية لم تحفل بالامتداد الذي يعطي للحكم سعة الأفق وامتداد التجربة ،لأن القضايا التي تتحرك في حياة الناس ،والمشاكل التي تتحدى أوضاعهم ،كانت تنطلق من مواقع محدّدة ،ومشاكل ضيّقةٍ ،لا مجال معها لبروز الحكم في صورته الواسعة ،بما قد يوحي للآخرين بأن الحكم لا يمثّل هدف المسيرة النبويّة ..
سيرة الإيمان لا تتوقف بكفر الكافرين بها
وهذه هي المسيرة التي أراد الله للناس أن يسيروا معها ويؤمنوا برسالتها ،وينطلقوا مع أهدافها على أساس ما قدّمه لهم الأنبياء من بيّنات وبراهين{فإن يكفر بها هؤلاء} المشركون ويتمرّدوا عليها ،فإن المسيرة لن تتوقف ،والرسالة لن تموت ،لأن قضية حياة الرسالة ليست قضية فئةٍ ،تتحرك بحياتها وتموت بموتها ،بل هي قضية انفتاح القلوب على إشراقة الإيمان في داخلها ،في كل جيل وفي كل مكان ،ما يحقق للإيمان الانتصار في هذا الجيل أو ذاك ،أو في هذه المرحلة أو تلك ..ويكفل لمسيرة الإسلام أن تتقدم .وهذا ما عبر عنه الله سبحانه بقوله:{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} .
ووقف المفسرون أمام هذه الفقرة ليحدّدوا شخصية هؤلاء الذين وكَّلهم الله بالرسالة ،واختلفوا حول هذا الأمر .ونحن لا نظن بأن الآية واردةٌ في مجال الإشارة إلى أشخاص معينين ،أو فريقٍ معين ،بل هي واردة في مجال الحديث عن عدم سقوط الرسالة ،وانتهاء المسيرة بكفر الكافرين من هؤلاء ،لأن الله يرسل من عباده أناساً يؤمنون بها ويحملون شعاراتها ،ولا يكفرون بمبادئها ،وهم الذين انطلقوا مع الرسالة في كل مراحلها في حركة الحياة .وربما انطلق الكثير مما حدّدوه ،من موقع الحدس والتخمين ،لا من موقع الرواية واليقين .