وتنطلق خاتمة الفصل بالآية التي تدعو النبي إلى أن يقتدي بهذا الهدى الذي أرشد الله إليه هؤلاء الأنبياء ،فيهتدي به ،على أساس أنه هدى الله الذي تتحرك به الحياة فتحتوي كل مراحلها في خطّةٍ موحّدة لا سبيل معها للانحراف أو التبديل ،لأنه يمثّل الحلّ الرسالي لمشكلة الإنسان ،بعيداً عن الخصوصيّات ،ولذلك كانت التغييرات والتبديلات في شرائع الأنبياء لا تمس المبادىء العامة ،بل تتعرض للتفاصيل التي لا تمثل إلا اختلافاً في التطبيقات والهوامش والشكليات ،وهذا هو قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .
وفي ضوء ذلك ،كانت الرسالة الإسلامية تؤكد في دعوتها إلى الإيمان ،على الإيمان بما أنزل إلى الرسول محمد( ص ) وإلى الأنبياء الذين سبقوه ،انطلاقاً من وحدة الرسل في وحدة الرسالة .
الأنبياء: رسالات متواصلة
قد نستوحي من هذه الآية ،أن الله لا يريد لرسله وللعاملين في سبيله أن يتحركوا في دعواتهم من منطلق ذاتيٍّ يؤكد على الجانب الشخصيّ الذي يستدعي انطلاق كل واحدٍ منهم من نقطة البداية بعيداً عن خطوات الآخرين الذين سبقوه ،لأنه لا يريد أن يوحي بالفكرة التي تقول إنه بدأ من حيث انتهى الآخرون ،أو أنه يسير على الهدى الذي ساروا عليه ،لأن ذلك يُنقص من شخصيته التي تبحث عن الاستقلال الذاتي ،في ما تطرحه من قضايا ،أو تدعو إليه من دعوات ،وإن اتفقت مع ما يطرحه الآخرون أو مع ما يدعون إليه ،بل يريد لهم أن يتحركوا من منطلق الرسالة ،فهي القاعدة ،والمسار ،والهدف ،وهي التي تعطي للشخصيات معنًى وقيمةً وامتيازاً ،وهي التي ترتقي بهم إلى الدرجات العليا ،وليسوا هم الذين يرتقون بها .
وعلى هذا الأساس ،فإنّ النبيَّ لا يعيش همَّ الذات في حركته ،بل يعيش همّ الرسالة في منطلقاته ،ما يجعل من موقعه في حركة الرسالة موقعاً يكمل السلسلة في خطواتها ،لا موقعاً يعطي الذات دوراً مميّزاً منفصلاً عن الأدوار الآخرى .وهذا ما جعل عيسى( ع ) يقولفي ما روي عنهجئت لأكمل الناموس ،وما دعا محمّداً( ص ) أن يقول:"إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق "،انطلاقاً من الهدى الذي جاء به الأنبياء في مكارم الأخلاق ،وجاء به في رسالته التي تكمّل خط السير .
وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك ،أن الله يريد أن يعلمنا أن لا نستغرق في الأنبياء كأشخاص ،بل أن نستغرق فيهم كخطّ وكهدى وكرسالة ..وأن لا نقول إن هذا النبي أفضل من ذاك ،ليكون ذلك مبعث خصام وخلافٍ وانقسام فيما بيننا ،لأنهم لم يعيشوا في حياتهم هذا الهاجس ،ولم يتحركوا من أجل تأكيده ،وإن كان الله قد فضَّل بعضهم على بعض ،لكن ذلك لا يباعد بين خطواتهم ،بل كل ما هناك هو السير على الخط الذي ساروا عليه ،في اتجاه الهدف الأسمى ،لأن الله هو الذي يفاضل بينهم في الدرجات ،بعد أن فاضل بينهم في مسؤوليات الحياة ،وليس لنا في ذلك دخلٌ من قريب أو من بعيد ،فلنقف حيث يريد الله لنا أن نقف ،ولنوفِّر على أنفسنا جهد البحث في ما لا سبيل لنا للإحاطة به ،ولا فائدة لنا في الوقوف عنده ،ولندَّخر تفكيرنا لما أرادنا الله أن نخوض في معرفته ،وللجهاد في سبيله ،من خلال قيادة الرسول فكراً وحركة وعملاً .
الأنبياء لا يسألون الناس أجراً
وماذا بعد ذلك ؟إن هدى الله الذي سار عليه الأنبياء كان يقدّم نفسه إلى الناس منحةً وعطيّةً من دون أجر ،بكل محبةٍ وإخلاصٍ ،لأن الله أراد للحقيقة أن تعيش في حياة الناس كالنور والماء والهواء ،لينفتحوا عليها ،بكل بساطةٍ وعفويّةٍ ،لتلامس أرواحهم وأفكارهم ومشاعرهم من دون حواجز أو عقباتٍ ،لأن الإنسان الذي يشعر بأنه يدفع الأجر لمن يدعوه إلى اتباع ما يحمله من رسالة ،قد يعيش الشعور السلبي بالمعنى التجاري للرسالة ،في ما تعنيه قضية التجارة من معنى السلعة للمعوّض ومعنى الثمن للعوض ،ومعنى التاجر لمن يقدّم السلعة ،ودور المشتري لمن يدفع الثمن ،ثم قد تقف مثل هذه العملية التجاريّة حجر عثرة في حركة الرسالة ،في خضوع قضية الانتماء إليها والإيمان بها ،لقوانين العرض والطلب والانفراج أو الانكماش الاقتصادي ،في ما تعيشه حياة الناس من أزمات أو انفراجاتٍ .
إن الله يريد للرسالة أن تدخل في وعي الناس ،من خلال روحيّة الرسول الذي يعيش العطاء بدون مقابل ليعيش الناس الإحساس بأنها حقّهم كما هي مسؤوليتهم ،ولذلك فلن يكون الأجر منهم هو ما يستهدفه الرسول ،بل الإيمان الذي يحقق له محبة الله ورضاه ،ولن تكون قدرتهم على دفع الأجر هي التي تفتح لهم باب الإيمان ،وتدفع الرسول إلى أن يقدم إليهم آياته وبراهينه ،بل قدرتهم على الاستماع والتفكير والحوار والاستعداد للسير في خط الهدى المستقيم .
وهذا ما جعل شعار الأنبياء كلهم أمام أممهم{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} لأنهم لا يملكون شيئاً مما يقدمونه للناس ،بل هو ملك الناس الذي وهبه الله لهم ،كما وهب لهم الحياة ،والذي أراد لهم من خلاله أن يخرجوا من غفلتهم ويتذكروا دائماً كيف يحركون حياتهم في اتجاه الله ،حيث الحق والخير والعدل والإيمان ،فلا حقّ للنبي بالأجر ،في ما أعطاه الله ،{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .
إن هذه الروحيّة التي عاشها أنبياء الله ،هي روحية الرسالة التي تحمل همّ الناس في وعيهم للحقيقة ،وفي انفتاحهم على الحياة ،وفي إخلاصهم لله ،ما يدفعها إلى أن تحطّم الحواجز في سبيل ذلك ،وأن تدفع الثمن من جهدها وحياتها ،بعيداً عن كل ما يوحي بالعوض ،أو يثير قضية الأجر .
وهذا ما نحتاجه في سلوك العاملين من أجل الرسالة ،ليعيشوا رساليّة العمل ،ولا يغرقوا في تفصيلات المهنة ،فإذا واجهتهم المشاكل بالتحديات ،وقفوا أمامها بوعي الرسالة ،وقوة الإيمان ،وإذا أثقلتهم المسؤوليات ،عاشوا مع الله ،فوهبهم منه القوّة التي تخفِّف عنهم ما يحسونه من ثقل ،فيشعرون كما لو كانوا يطيرون في خفة النسيم وزهو الشعاع المتدفق من ينابيع الشروق .فهم مع اللهدائماًعلى موعد ،كلما كان لهم موعد مع الناس في حركة الرسالة ،لأن ذلك ما يوحي إليهم بالروحيّة الفيّاضة بالرحمة والمحبة والحنان .وبذلك كان لهم هذا الامتداد في حياة الناس ،من خلال امتدادهم الروحي في حجم الرسالة ،ليعيش ذلك كله تاريخاً وإيماناً يتحرك للحياة ليركزها على قاعدةٍ جديدةٍ من الاهتمام بأمور الناس والتفاعل مع قضاياهم ومشاكلهم ،في وعيٍ يبعد الذات عن الساحة ،لتبقى الساحة للرسالة في كل المجالات .
إشكالية نسب ابن البنت إلى الجدّ
وهنا مسألة أثارها المفسرون في استيحاء قوله تعالى:{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} حيث ذكر عيسى( ع ) من ذرّية إبراهيم( ع ) ،مما يدل على أن ابن البنت هو من ذرّية الجدّ ،فلا ينحصر النسب بالقرابة الحاصلة من جهة الأب .وقد انطلق التدقيق في هذه المسألة من خلال الجدل الذي دار حول انتساب الحسن والحسين( ع ) إلى رسول الله( ص ) ،باعتبار أنهما ابنا ابنته فاطمة( ع ) .
فقد جاء في تفسير العياشي عن أبي حرب عن أبي الأسود قال:"أرسل الحجّاج إلى يحيى بن يعمر قال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب الله ،وقد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده .قال: أليس تقرأ سورة الأنعام ؟{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} حتى بلغ{وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّلِحِينَ} قال: أليس عيسى من ذرية إبراهيم ؟قال: نعم قرأت ".
وفي الدر المنثور: أخرج أبو الشيخ ،والحاكم ،والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال:"دخل يحيى بن يعمر على الحجاج ،فذكر الحسين ،فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي( ص ) ،فقال يحيي: كذبت .فقال: لتأتيني على ما قلت ببيّنة ،فتلا:{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه .قال: صدقت .
وقد انطلق القرآن في قضية النسب في القرابة من خلال الواقع التكويني الذي يشد الوالد إلى من تولد منه بالواسطة أو بشكل مباشر ،وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنْثَيَيْنِ} [ النساء:11] وقال:{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدَنِ وَالاَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدَنِ وَالاَْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [ النساء:7] وقال في آية المحارم:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [ النساء: 23] إلى قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [ النساء:24] ومن المعروف أن بنت البنت ترث في غياب البنت تماماً كما هو ولد الولد ،وأن بنت البنت محرمة على الجد بلحاظ شمول كلمة البنت لها .
وقد جاء الحديث عن أبي جعفرمحمد الباقر( ع )مما رواه في الكافي بإسناده عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود قال: قال لي أبو جعفر( ع ): يا أبا الجارود ،ما يقولون لكم في الحسن والحسين( ع ) ؟قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله( ص ) قال: فأيّ شيء احتججتم عليهم ؟قلت:احتججنا عليهم بقول الله عز وجل في عيسى بن مريم( ع ):{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح( ع ) .
قال: فأي شيء قالوا لكم ؟قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب ،قال: فأيّ شيء احتججتم عليهم ؟قلت: احتججنا عليهم بقول الله تعالى لرسوله( ص ):{فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} [ آل عمران:61] قال: فأيّ شيء قالوا ؟قلت: قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول: أبناؤنا ،قال: فقال أبو جعفر( ع ) يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله جل وتعالى أنهما من صلب رسول الله( ص ) لا يردها إلا الكافر ،قلت: وأين ذلك جعلت فداك ؟قال: من حيث قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى:{وَحَلائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} فسلهم يا أبا الجارود هل كان يحلّ لرسول الله( ص ) نكاح حليلتيهما ؟فإن قالوا نعم ،كذبوا وفجروا ،وإن قالوا لا فهما أبناه لصلبه