{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: أي ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق عظمته ،والقدر والتقدير تبيين كمية الشيء ،وقدر الشيء كميته من عظم أو صغر ونحوهما واستعمل في المعاني بمعنى العطية .يقال: قدر فلان عند الناس يعني عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعه ويلزم ذلك الوصف والمعرفة .
{قَراطِيسَ}: جمع قرطاس: وهو ما يكتب فيه من ورق وجلد وغيرهما .
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديفي الآية{إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف ،فخاصم النبي( ص ) ،فقال له النبي( ص ): أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ،أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟،وكان حبراً سميناً ،فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء ،فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا على موسى ؟فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء ،فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال ابن عباسفي رواية الوالبيقالت اليهود: يا محمد ،أنزل الله عليك كتاباً ،قال: نعم ،قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً ،فأنزل الله تعالى:{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} وقال محمد بن كعب القرظي: أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يسأل أهل الكتاب عن أمره وكيف يجدونه في كتبهم فحملهم حسد محمد أن كفروا بكتاب الله ورسوله ،وقالوا:{مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} فأنزل الله تعالى هذه الآية: وذكر في رواية أخرى أن آية{إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} يعني مشركي قريش .
ونلاحظ أن اختلاف هذه الروايات يوحي بأن القضية لم تكن رواية عن الحسّ في حضورهم في وقت نزول الآية أو روايتهم عمن عاش في تلك الحالة ،بل كانت اجتهاداً شخصياً في محاولة لتطبيق الآية على حادثة أو واقعة مفروضة عندهم ،ويؤيد ذلك التكلف في أسلوب الروايات ،والله العالم .
وقد نلاحظ على هذه الروايات أنه ليس من الطبيعي إنكار اليهود إنزال الكتاب على بشر في الوقت الذي يلتزمون التوراة ككتاب أنزله الله على موسى( ع ) .وقد ردّ العلامة الطباطبائيقدس سرهفي الميزان بأنه لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصّباً على الإسلام أو تهييجاً للمشركين على المسلمين ،أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي( ص ) يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه ،وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين… إلى آخر ما قال .
ولكن هناك فرقاً بين الموقف من المسلمين أو من بعض التفاصيل وبين إنكار إنزال الكتاب على بشر أياً كان ،فإن ذلك يؤدي إلى إنكار أساس دينهم مما لا يتناسب مع إصرارهم بأنهم هم الذين يمثلون الشرعية الدينية من قبل الله وأنهم وحدهم أهل الكتاب ؛والله العالم .
كما أن رواية القرظي لا تنسجم مع طبيعة الأمور إذ لا نعقل وجهاً لتكليف الله النبي( ص ) لأن يسألهم عن صفته في كتبهم ليجيبوا بنفي وجود كتاب منزل من الله من حيث الأساس .
وقد جاء في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ} الآية ،نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي كان يسجع ويتكهن ويدّعي النبوّة ويزعم أن الله أوحى إليه .
وجاء فيه في قوله تعالى:{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد تكلم بالإسلام ،فدعاه رسول الله( ص ) ذات يوم يكتب له شيئاً ،فلما نزلت الاية التي في المؤمنين:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلالَةٍ} أملاها عليه ،فلما انتهى إلى قوله:{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [ المؤمنون:14] عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان ،فقال: تبارك الله أحسن الخالقين ،فقال رسول الله( ص ): هكذا أنزلت عليّ ،فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ،ولئن كان كاذباً ،لقد قلت كما قال ،وذلك قوله:{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ}وارتدّ عن الإسلام ،وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي .
وجاء في مجمع البيان أن قوله:{سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي للنبي( ص ) فكان إذا قال له: اكتب عليما حكيماً كتب غفوراً رحيماً ،وإذا قال له: اكتب غفوراً رحيماً كتب عليماً حكيماً ،وارتد ولحق بمكة وقال: إني أنزل مثل ما أنزل الله ،عن عكرمة وابن عباس ومجاهد والسدّي ،وإليه ذهب الفراء والزجاج والجبائي وهو المروي عن أبي جعفر( ع ) .
وقد نلاحظ على رواية مسيلمة أنه لم يكن في مستوى يشكل خطورة على الدعوة البارزة التي تؤدي إلى الخطورة بحيث ينزل الله فيه قرآناً ليردّ عليه قوله أو ليبعد الناس عنه .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فإن هذه السورة مكية بينما ظهر مسيلمة في آخر حياة الرسول( ص ) في المدينة ،إلا أن يقال: إن هذه الآية نزلت في المدينة ثم ضُمّت إلى السورة بأمر رسول الله( ص ) كما قال بذلك بعض القائلين .
وهكذا نتساءل عن شخصية عبد الله بن أبي سرح كيف اعتمده النبي كاتباً للوحي في الوقت الذي لم يكن مؤتمناً على الوحي ،وكيف يمكن أن ينطق بآية قرآنية قبل أن يلقيها النبي( ص ) عليه ،لتكون المسألة من قبيل توارد الخاطر بينه وبين الوحي .إن هذه الملاحظات تبعث على الاستغراب ؛والله العالم .
وجاء في مجمع البيان أن آية{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ} الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حين قال: سوف يشفع لي اللات والعزى ،عن عكرمة .
ونلاحظ على ذلك ،أن سياق الآية وارد في تحديد النتائج النهائية للمستقبل الذي يواجهه المشركون بشكل عام من خلال المنطق الذي يثير في شفاعة الأصنام لهم على طريقة{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [ الزمر:3] فهو منطقٌ عام وليس حديثاً فردياً ليكون حدثاً بارزاً يؤدي إلى نزول الآية ؛والله العالم .
وهذا حديث مع اليهود ،ومع جميع المنحرفين عن خط الدعوة إلى الله ،في ما كانوا يثيرون من كلماتٍ غير مسؤولةٍ ،لا ترتكز على أساسٍ من فكرٍ وعقلٍ .وسنلاحظ أنّ هذه الآيات تتنوّع في مناقشة بعض الأفكار ،وإثارة بعض علامات الاستفهام التي لا يقصد منها السؤال الساذج ،بل التسجيل الدقيق للمعلومات الحقيقيّة التي يتنكّر لها هؤلاء ،ثم إدخالٌ إلى الجو في روحيّة الموعظة التي تفتح القلب على الله في أجواء التأملات الذاتية الهادئة أمام قضية المصير .
{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} بل وقفوا أمامه وقفة الإنسان الذي لا يحس بأجواء العظمة في ما توحيه ذاته من الخشية والرهبة والخضوع ،فكانوافي موقفهم هذاكمن يستهين بعظمة الله وسطوته وقوّته وقدرته ،فلم يشعروا بالمسؤولية في ما يواجهون به رسله من التحديات ،أو يؤمنون به من أفكار ،وفي ما يثيرونه من شبهاتٍ ويتخذونه من مواقف ،ولم يخافوا من نتائج مواقفهم تلك .
إن الذين يخافون الله هُمُ الذين يقدّرون تصرفاتهم لجهة ما يأخذون وما يتركون ،تبعاً للمواقع التي ينتظرونها في مواقفهم أمامه في اللحظات الحاسمة للحساب ،أمّا الذين لا يبالون بما يصدر منهم من قولٍ أو فعل ،من حيثُ ارتباطه بحركة المسؤولية في حياتهم ،فهم الذين لا يقدرون الله حق قدره ،وهذا ما يتمثَّل في موقف هؤلاء{إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} ،لأن مثل هذا القول يدلّل على افتقادهم للوعي المسؤول ،لأنهم لا يملكون أيّة حجة عليه ،ما يعرّضهم لسخط الله وعذابه الذي توعّد القائلين عليه بغير علم ،بالعقاب والعذاب الأليم .
وكيف يملكون الحجة على النفي ،في ما لا يستطيعون الإحاطة به من فعل الله ؟!فإن صعوبة إقامة الحجة على النفي تزيد كثيراً عن إقامتها على الإثبات ،لأن الإيجاب محدود بحدود الفعل من حيث الزمان والمكان ،بينما يشمل السلب المطلق كل آفاق الموضوع .
وربما كان المعنى أن تقدير الله حق قدره يفرض إيمانهم بحقيقة الألوهية في خصائصها الربوبية من حيث إرسال الرسل وإنزال الكتب التي تقود الناس إلى ما يصلح أمرهم وشؤونهم الروحية والأخلاقية ،والمعارف العالية التي لا يملكون الحصول عليها إلا من خلال وحي الله ،لأن الله هو الهادي الذي يهدي خلقه إلى طريق سعادتهم ،فإذا لم يفعل ذلك ،فإنه يكون مقصراً في حركة لطفه ورحمته ،وفي ضوء ذلك ،فإن إنكار إرسال الرسل وإنزال الكتاب ،يوحي بأن هؤلاء لا يعرفون قدر الله ومنزلته في مواقع رحمته وهدايته ،والله العالم .
القرآن يواجه إنكار اليهود
ويتابع القرآن الموقف لمواجهتهم بالاحتجاج المضادّ ،ولكن بصورة سؤالٍ صارخ:{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} فهم يؤمنون بالتوراة ،أو هكذا توحي به الآية ،وربما كان هؤلاء من اليهود الذين ينتسبون إلى التوراة ،ولعل هذا ما جعل الآية تؤكد على هذا الكتاب دون الإنجيل الذي لا يؤمنون به ،أو لأن النصرانية التي تتمسك بالإنجيل لم يكن لها تأثير في الذهنية العربية على أرض الدعوة ،التي أراد القرآن أن يقتحمها ليغيّر تفكيرها أو طريقتها في التفكير .
وقد نستوحي من التأكيد القرآني على ما استهدفته توراة موسى( ع ) ،من النور الذي يضيء للناس آفاق المعرفة ،والهدى الذي يدلّهم على طريق الحق والإيمان ،أن الله يريد أن يوحي لهؤلاء بأن قضيّة الوحي ليست انتماءً تقليديّاً لا يغيِّر شيئاً من واقع الشخصية ،بل هي قصة الانفتاح على إشراقة الحق وهداه ،التي تجعل من الإنسان كياناً واعياً جادّاً ،في ما يخطّط من طريق ،ويسير إليه من هدف .
ولكن هؤلاء لم يحصلوا من ذلك على شيء ،بل اتخذوه وسيلةً لشهواتهم وأطماعهم ،وهذا ما أشارت إليه الآية{تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا} في ما لا يضرّ مكاسبهم وامتيازاتهم{وَتُخْفُونَ كَثِيراً} مما يكون حجةً عليهم ،ممّا يثبت صحة الإسلام وواقعية النبوّة لمحمد( ص ) .
لعلّ من الواضح أن الذمّ لليهود لم يكن لكتابتهم التوراة في القراطيس ،بل إن المسألة تتّصل بهذا النوع من توزيع آيات التوراة على القراطيس المتفرقة لا في كتاب واحدٍ ،مما يمكنهم من إبداء البعض وإخفاء الآخر إذا طالبهم الناس بالحجة على بعض ما يختلفون فيه معهم مما أثبتته التوراة وأنكروه .
{وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} فقد جاء الكتاب ليضع بين أيديهم الأسس الصحيحة للعلم الذي لا يملكون هم وآباؤهم فرصةً ذاتيةً له ،لأن هذه المعارف والعلوم والأخلاق والشرائع تنظم للإنسان حياته من خلال عمق مصالحه الحيوية التي يملك الإنسان بحسب تجاربه الذاتية أن يصل إليها ،ولكن الوحي هو الذي يعلمهم ذلك بكل قواعده وتفاصيله .ولكنهم لم ينتفعوا بذلك ،في ما توحي به كلماتهم هذه .وقيل: إنه خطابٌ للمسلمين يذكّرهم بما أنعم به عليهم ،ولكنه خلاف ظاهر السياق الوارد مورد الاحتجاج لا على نحو الجملة المعترضة التي لا ظهور للكلام فيها ،مع ملاحظة أن هذا القول يفرض تغيير مورد الخطاب من اليهود إلى المسلمين ولا قرينة عليهكما جاء في تفسير الميزان.
ويفرض السؤال نفسه عليهم ،فلا يجيبون عليه ،أو هكذا يريد القرآن أن يوحي ،في ما يهدف أن يوحي إلينا به عن حالهم ،ولكنها الحقيقة التي تفرض نفسها على الجواب ،{قُلِ اللَّهُ} فهو الذي خلق الناس ليرتفعوا بالحياة إلى المستوى الذي يريده ويرضاه ،وهو الذي يُرسل الرسل ،ويُنزل الكتب ،ليعلّمهم كيف يكونون أحسن عملاً ،وأكثر جديةً ،وأشدَّ قوَّةً وآثاراً ،وهو الذي يفتح قلوب الواعين على الإيمان به .
قل الكلمة الحاسمةيا محمدودع الحقيقة تفرض نفسها على الأفكار والأسماع والقلوب ،ولا تتعقّد أمام أيّة وقفةٍ مضادّةٍ ،أو شبهةٍ حادّة ،ولا تعبأ بما يقولون وما يخوضون فيه من أحاديث وتفاهات ،وما يمارسونه من ألعاب الغوايات ..{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} لأنهم لا يواجهون الحياة بالعقليّة الجادّة ،بل يواجهونها بالعقلية اللاهية اللاعبة التي تعبث بالكلمات والمواقف بعيداً عن حركة المسؤولية ووعي الإيمان ،ولهذا أنكروا ما أنكروه وابتعدوا عما ابتعدوا عنه .