{مُبَارَكٌ}: جاء في مفردات الراغب: أصل البَرْكِ صدر البعير وإن استعمل في غيره ،ويقال له: برْكَةٌ ،وبَرَك البعير ألقى رُكَبَهُ واعتبر منه معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب وبَرَاكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال ،وابتركت الدابة وقفت وقوفاً كالبروك ،وسمّى محبس الماء بِركة .والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ،قال تعالى:{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ} [ الأعراف:96] وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة ،والمبارك ما فيه ذلك الخير على ذلك{وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} تنبيهاً على ما يفيض فيه من الخيرات الإلهية .قال: ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس وعلى وجهٍ لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة ،وإلى هذه الزيادة أشير بما روي أنه لا ينقص ماله من صدقة ،لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال بيني وبينك الميزان .ثم أنهى كلامه أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات .
{أُمَّ الْقُرَى}: مكة ،سميت بذلك إما لأنها قبلة أهل القرى أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس ،فكأن القرى نشأت منها ،أو لأن الدعوة ابتدأت منها ،فكأن القرى في العالم تتفرع منها وترجع إليها كما هي الأم بالنسبة إلى أطفالها ،ولهذا كانت مكة هي المركز ،وتوصف المدن والبلدان بالأقصى والأولى تبعاً لدنوها وبعدها منها ،وهذا ما جاء في قوله تعالى:{ألم*غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ} [ الروم:13] .
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} كما أنزلنا الكتاب الذي جاء به موسى( ع ) على نهج الكتب التي أوحى بها الله إلى رسله ،فهو الذي يتضمّن كل ألوان البركة وما يفتح الخير على الناس ،لأنه يهديهم إلى سبل السلام إذا اتّبعوه ،ويمنحهم الصفاء الروحي والنموّ العقلي .وهي الصفات التي تجعله مباركاً في آياته ومفاهيمه وشرائعه وحركيته في واقع الحياة والإنسان ،كما تجعله مصدقاً لما بين يديه من الكتب التي يصدّق بعضها بعضاً ،والتي تخاطب إنسانية الإنسان في كل زمانٍ ومكانٍ{وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وهي مكة{وَمَنْ حَوْلَهَا} من القرى في ما تتسع له الدعوة ،ويتحرّك فيه الإنذار ..وليس معنى ذلك أن الدعوة الإسلاميّة تنطلق في أجواء محليّةٍ محدودة ،بل إن معناه الانطلاقة الأولى للدعوة في نطاق حركة الرسول( ص ) ،من خلال ما تسمح به إمكانات التحرّك الأوّل في نطاق الجزيرة العربية ،كمرحلةٍ رائدةٍ للدعوة ،ثم تتحرك في سائر أقطار الأرض في المراحل الأخرى ،إذ لا وجه لهذه المحدوديّة في أفكار الدعوة التي لا تمثل أيّة حالةٍ محليّةٍ في مفاهيمها وقضاياها المطروحة وما تتضمنه من قضايا إنسانية عامّة .
وربّما كان قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إشارةً إلى أنّ قضيّة الإيمان به موجّهة إلى كل المؤمنين بالآخرة الذين يواجهون آياته بالإيمان من موقع الشعور بالمسؤوليّة في ما يرجون من ثواب الله وعقابه .وقد يكون قوله تعالى:{وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} إيحاءً بالروح الإيمانية الفاعلة المتحركة ،في ما تمثله الصلاة من التزامٍ روحيٍّ وعمليٍّ في علاقة الإنسان بالله ،وفي انسجامه مع الأجواء التي تثيرها الدعوة إلى الله في فكر الإنسان وضميره .وقد أثار بعض المفسرين احتمال ،أن يكون المراد من كلمة{وَمَنْ حَوْلَهَا} سائر أقطار الأرض على أساس إحاطتها بمكة ،ولكنه بعيد عن طبيعة الكلمة التي تعني المناطق المجاورة للبلد ،والله العالم .