التّفسير
تعقيباً على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي ،تشير هذه الآية إِلى القرآن باعتباره كتاباً سماوياً آخر ،والواقع أنّ ذكر التّوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر ،فتبدأ بالقول: ( وهذا كتاب أنزلناه ) وهو كتاب «مبارك » لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم ،ثمّ إِنّه يؤكّد الكتب التي نزلت قبله: ( مصدق الذي بين يديه ) ،والمقصود من أنّ القرآن يصدق الكتب التي بين يديه هو أنّ جميع الإِشارات والإِمارات التي وردت فيها تنطبق عليه .
وهكذا نجد علامتين على أحقّية القرآن وردتا في عبارتين: الأُولى: وجود علامات في الكتب السابقة تخبر عنه ،والثّانية: محتوى القرآن نفسه الذي يضم كل خير وبركة وسعادة ،وبناءاً على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة ،وفي المستندات التّأريخية من جهة أُخرى .
ثمّ يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإِنذار والتحذير لأُم القرى ( مكّة ) والساكنين حولها وتنبيههم إِلى مسؤولياتهم وواجباتهم: ( ولتنذر أُم القرى ومن حولها ){[1237]} .
«الإِنذار » اخبار فيه تخويف من ترك الواجبات والمسؤوليات وهذا من أهم أهداف القرآن ،خاصّة بالنسبة للطغاة المعاندين .
وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة ،يوم الحساب والجزاء ،سيصدقون بهذا الكتاب ،ويؤدون فريضة الصّلاة ولا يفرطون فيها: ( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ) .
بحوث
نلفت الانتباه هنا إِلى النقاط التّالية:
1الإِسلام دين عالمي
تبيّن آيات القرآن المختلفة بما لا يدع مجالا للشك أنّ الإِسلام دين عالمي ،من ذلك: ( لأنذركم به ومن بلغ ){[1238]} و ( إِنّ هو إِلاّ ذكر للعالمين ){[1239]} .و( وقل يا أيّها الناس إِنّي رسول الله إِليكم جميعاً ){[1240]} وغيرها كثير في القرآن ،ولكلّها تؤكّد هذه الحقيقة ،وإنّه لمما يثير الانتباه أنّ معظم هذه الآيات قد نزلت في مكّة يوم لم يكن الإِسلام قد تخطى حدود تلك المدينة .
ولكن فيما يخص الآية التي نحن بصددها ،يظهر لنا السؤال التالي: إنّ الآية توجه الإنذار والهداية إلى أم القرى ومن حولها ،فكيف ينسجم هذا مع القول بأنّ الإِسلام عالمي ؟
في الحقيقة إنّ هذا الاعتراض جاء أيضاً على لسان اليهود وغيرهم من أتباع الأديان الأُخرى ظانين أنّهم قد أصابوا من عالمية الإِسلام مقتلا ،باعتبار أنّ الآية تحدد مكانه بمنطقة خاصّة هي مكّة وأطرافها{[1241]} .
الجواب:
يتّضح الجواب من هذا الاعتراض بالانتباه إِلى نقطتين ،بحيث ندرك أنّ هذه الآية ،فضلا عن كونها لا تتعارض مع عالمية الإِسلام ،هي واحد من أدلة عالميته أيضاً:
القرية بلغة القرآن اسم لكل موضع يجتمع فيه الناس ،سواء كان مدينة كبيرة أُم قرية صغيرة ،ففي سورة يوسفمثلاجاء على لسان إخوة يوسف يخاطبون أباهم: ( واسأل القرية التي كنا فيها ){[1242]} ونحن نعلم أنّهم كانوا قد رجعوا لتوهم من عاصمة مصر حيث حجز عزيز مصر أخاهم ( بنيامين ) كذلك نقرأ: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ){[1243]} .بديهي أنّ المقصود هنا ليس القرى في الأرياف ،بل هو كل منطقة مسكونة في العالم .
ومن جهة أُخرى هناك روايات عديدة تقول: إِنّ اليابسة قد انتشرت من تحت الكعبة ،وهو ما أطلق عليه اسم «دحو الأرض » .
كما أنّنا نعلم أنّه في البداية هطلت أمطار غزيرة فغطّى الماء الكرة الأرضية برمتها ،ثمّ غاض الماء شيئاً فشيئاً واستقر في المنخفضات ،وظهرت اليابسة من تحت الماء ،وكانت مكّة أوّل نقطة يابسة ظهرت من تحت الماء ،حسب الأحاديث الإِسلامية .
وكون مكّة ليست أعلى مكان على الكرة الأرضية في الوقت الحاضر ،لا يتعارض أبداً مع هذا القول ،لأن مئات الملايين من السنين تفصلنا اليوم عن ذاك الزمان ،وقد حدثت خلال ذلك تغيرات جغرافية بدلت وجه الأرض كلياً ،فبعض الجبال هبطت إِلى أعماق البحار ،وبعض أعماق البحار ارتفع فصار جبلا ،وهذا ثابت في علم التضاريس الأرضية والجغرافية الطبيعية .
أمّا كلمة «أُم » فتعنيكما سبق أن قلناالأصل والأساس والمبدأ لكل شيء .
من كل هذا يتبيّن أنه إِذا أطلق مكّة اسم «أُم القرى » فذلك يستند إِلى أنّها كانت مبدأ ظهور اليابسة على الأرض ،«ومن حولها » أي جميع الناس الذين يسكنون الأرض برمتها .
وهذا ما تؤيده الآيات الأُخرى التي تؤكّد عالمية الإسلام ،وكذلك الرسائل الكثيرة التي بعث بها رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) إِلى رؤساء العالم ،مثل كسرى وقيصر ،وقد جاء شرح ذلك في المجلد الثاني من هذا التّفسير .
2العلاقة بين الإِيمان بالقرآن والإِيمان بالآخرة
تبيّن هذه الآية: إِنّ الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون أيضاً بالقرآن ،أي أنّهم يعلمون أن هذه الدنيا ما هي إِلاّ مقدمة لعالم الآخرة ،وانّها أشبه بالمزرعة أو المدرسة أو المتجر ،والوصول إِلى ذلك الهدف الرفيع والاستعداد لذلك اليوم لا يكون إِلاّ عن طريق مجموعة من القوانين والمناهج والدساتير وإِرسال الأنبياء .
بعبارة أُخرى ،إِنّ الله قد أرسل الإِنسان إِلى هذه الحياة ليطوي مسيرته التكاملية وليصل إِلى مستقره الأصلي في العالم الآخر ،وهذا الغرض ينتقض إِذا لم يرسل إِليه الأنبياء والكتب السماوية ،من هنا يمكن أن نستنتج من الإِيمان بالله والمعاد ،الإيمان بنبوة الأنبياء والكتب السماوية ( تأمل بدقّة ) .
3أهمية الصّلاة
نلاحظ في هذه الآية أنّها تشير إِلى الصّلاة من بين جميع الفرائض الدينية ،ونعلم أنّ الصّلاة هي مظهر الارتباط بالله ،ولذلك كانت أرفع من جميع العبادات منزلة ،ويرى بعضهم أنّه عند نزول هذه الآية كانت العبادة الوحيدة المفروضة حتى ذلك الوقت هي الصّلاة{[1244]} .