وقد ذكر الله تعالى ذلك الكتاب الذي أنكروه فقال تعالت كلماته:
( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) الإشارة إلى الكتاب وهو القرآن ذكر الله تعالى أمورا ثلاثة ، بعضها فيه معنى التعليل ، وبعضها فيه تعليل بالغاية ، وأولها أنه ( مبارك ) ومعنى البركة النماء والزيادة ، وإن القرآن مبارك في معانيه فهو يشمل كل علوم الدين والأخلاق وفيه ذكر للكون ، وفيه بيان العقيدة الإسلامية ، وفيه أسماء الله الحسنى ، وفيه أوصاف الله الذاتية ، وثبوت الكمال المطلق لله تعالى ، ونفى كل مالايليق بالله ، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم ، وفيه كل أصول التكليفات الدينية ، وفيه القصص الحق عن النبيين وعن الأمم التي خالفت أنبياءها وكيف كان مصيرها وان معانيه وما كشفه ألفاظه تذهب في العقول على مذاهب من الإدراك لا نهاية لها ، وكلما أمعن القارئ في ألفاظه وعباراته أشعت منها نورا مبينا ، وذكرا حكيما ، حتى قال بعض الناس إن للقرآن ظاهرا وباطنا ، إذ كلما أمعن فيه النظر أدرك ما لم يكن من قبل ، وهو يوجه الأنظار على علم الأكوان بإشارات لامحة وعبارات واضحة .
ومهما نتكلم في معاني القرآن ، فلن ندرك الغاية ، ولا نقاربها ، وهذا يصور معنى أنه مبارك الأمر الذي في القرآن أنه مصدق الذي بين يديه ، ونجد اللفظ عاما لكل ما بين يديه من أخبار الأنبياء السابقين وأخبار أقوامهم ، والعبر ، والمثلات فيهم ، فهو سجل النبوات ، ومعجزات الرسل ، وكان كذلك ليعلم بها من يعلم ، ومن عنده العظة والاعتبار كما قال تعالى:(. . .إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار 13 ) ( آل عمران ) ومصدقا للكتب السابقة من التوراة والإنجيل والزبور .
كان القرآن لذلك كله ( ولتنذر أم القرى ومن حولها ) والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأم القرى هي مكة ، لأنها في البلاد العربية فإنها الأصل لها ، وذلك لأن بها البيت الحرام التي يتخطف الناس من حولهم وإذا جاءوا اليها كانوا آمنين ، فهي الملجأ من كل مخوف ولأن الناس يحجون إليها ولأنها كانت وسط التجارة في البلاد العربية ولأن بها قريشا ذرية إبراهيم عليه السلام وقد قال بعض العلماء:انها جغرافيا تعد في وسط العالم لذلك سميت بأم القرى .
وإنذار أم القرى هو إنذار أهلها وإطلاق المكان وإرادة أهله هذا كثيرفي القرآن ومن ذلك قوله تعالى:( فليدع ناديه 17 ) ( العلق ) وما كانت البقع والمباني لتنذر إنما ينذر أهلها .
( ومن حولها ) من مساكن سواء أكانت لاهل المدر ام كانت لاهل الوبر ، بل يمتد ما حولها على الفرس والشام وما وراءه والرومان وغير ذلك ، للدلالة على عموم الرسالة المحمدية ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( كان كل نبي يبعث لقومه ، وبعثت للأحمر والأسود ){[1033]} ولقد قال تعالى في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن:(. . .وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 19 ) ( الأنعام ) . وقال تعالى:( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا 1 الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا 2 ) ( الفرقان ) .
وهكذا نجد الآيات الكثيرات الدالة على عموم الرسالة المحمدية ، وهو خاتم النبيين فلا نبي بعده ، وما كان الله تعالى ليترك عباده سدى من غير نذير يرهب بسوء عاقبة الشر ، وبشير يبشر بحسن العاقبة لأهل الخير .
واان القرآن يؤمن به من يدرك حقيقة الدين ، وحقيقة الدين أن يعلم الإنسان أنه لم يخلق عبثا وأن الحياة الباقية وأن الدنيا سبيل لها ، وان نعيمها هو الباقي .
ولذا أخبر تعالى أن الذين يؤمنون بالآخرة هم الذين يؤمنون بالقرآن فقال تعالى:( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) ذلك أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بالحق والخير لأنهم يرون أن الحياة الدنيا فيها التنازع بين الخير والشر ، بين النفس اللوامة والنفس الأمارة ، ولا بد أن ينتصر الخير ، لأنه الفطرة ولا يكون ذلك إلا بحياة أخرى ولأن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بحكمة الإيجاد والتكوين ، ولا يمكن أن تكون نتيجة الحياة النهائية هي تلك المغالبة وذلك التناحر ، وفوق ذلك أن الإيمان بالغيب يجعل النفس مستسلمة لله تعالى راضية بما عنده ، وما أعده لها من نعيم فلهذا كان الإيمان بالآخرة والإيمان بالقرآن العظيم متلازمين لا ينفصلان ، فمن آمن بالآخرة آمن بالقرآن ومن آمن بالقرآن آمن بالبعث والنشور والقيامة واليوم الآخر .
وان كمال وصف المؤمنين بالقرآن أن يكونوا صالحين غير مفسدين وألا يعملوا الا معروفا ، ولا يقع منهم منكر ، وذلك بالصلاة التي هي عمود الدين لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتملأ النفس بذكر الله وبذكر الله تطمئن القلوب ، ولذا قال تعالى:( وهم على صلاتهم يحافظون ) وتقديم الجار والمجرور لبيان أن اختصاص الصلاة بالمحافظة يؤدى الى كل الخير ، والمحافظة عليها بإقامتها مستوفية الأركان حسا ومعنى وامتلاء النفس بخشية الله تعالى ، وأدائها في أوقاتها فغنه بهذا يكمل الدين ، ويتم الإيمان .