( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 93 وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 94 )
بين الله تعالى منزلة كتابه الكريم وذكر انه الحق الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقد بدأ سبحانه وتعالى بذكر ظلم من يفتري عليه سبحانه ويدعى أنه أوحى الله تعالى اليه ، ولم يوح إليه بشيء فقال تعالى:
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ) .
الاستفهام في قوله تعالى:( ومن أظلم ) هو للإنكار بمعنى النفي وفيه من التنديد بالذين يفعلون ذلك أشد التنديد وقد ذكر سبحانه افتراءهم على الله بنفيهم إنزال الرسل وقولهم:(. . .ما أنزل الله على بشر من شيء . . .91 ) ( الأنعام ) والآن يبين انهم لا يقفون موقف الإنكار بل يبهتون ويكذبون ويفترون ، وذكر سبحانه طوائف ثلاثة ترتكب في حق الله تعالى أشد الظلم لأنفسهم بتضليلها وإيغالها في الشر وظلم الناس بنشر الباطل بينهم وتضليلهم وظلمهم للحقائق الدينية .
أولى هذه الطوائف التي افترت على الله تعالى كذبا ، أي اختلقت على الله كذبا ، والافتراء هو اختلاق الكذب ، وهو يتضمن معنى الكذب ، ولكن صرح بالكذب لبيان شدة افترائهم واختلاقهم وكلامهم الباطل الذي ليس له أصل من الحق أو الحقيقة كعبادتهم الأوثان وادعاء أنهم يقربونهم اليه زلفى ، كادعاء النصارى أن لله ولدا ، وأنه إله ، وكتحريم المشركين بعض النعم على أنفسهم ، وتحريم البحيرة والموصولة وغير ذلك وكافترائهم على الله بأنهم أولياؤه وأحباؤه ، فهؤلاء في اشد أحوال الظلمة .
الطائفة الثانية:تلك التي تدعى أنه أوحى لها ، ولم يوح إليها بشيء كبعض المقربين من النصارى مثل بولس الذي كان وثنيا ، وادعى بعد ذلك دخوله في دين المسيح وحوله من وحدانية الى وثنية وادعوا أن من سموهم رسلا أوحى إليهم وتجلى لهم روح القدس ، وغير ذلك من الاوهام الباطلة والأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان وكبعض الأعراب الذين كانت منهم نواة الردة الذين ادعوا أنه يوحى إليهم كما يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
الطائفة الثالثة:التي ادعت ان القرآن لا يعجز وأنها ستنزل مثل ما أنزل الله تعالى من قران وقد أخبر تعالى عنهم ، فقال:( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ 31 ) ( الأنفال ) .
هؤلاء الطوائف الثلاث هم اظلم الناس لأنهم كذبوا على الله تعالى ، وأضلوا أنفسهم وأضلوا الناس وكان كلامهم افتراء وان هذا النوع الذي يبهت الناس بالباطل هو الذي نشر الأديان الباطلة والأوهام الكاذبة ، وما من عقيدة باطلة تنتشر الا بظلم هؤلاء ، ومن تبعهم .
وان هؤلاء مآلهم جهنم وبئس المصير ، وقد صور الله تعالى حالهم ، وأرواحهم تنتزع من أجسامهم ، والأيدي تبسط اليهم بالعذاب الشديد العتيد المهيأ لهم ، فقال تعالت كلماته:( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) والغمرات الشدائد جمع غمرة أي شدة واصلها الذي يغمر الأشياء فيغطيها وإطلاقها على الشدائد من قبيل أنها مغمورة فيها لا تكاد تخرج منها ، ولهذا قد أحاطت بها كما يغمر الماء الغريق فيحيط به من كل جوانبه ، وغمرات الموت شدائده التي تكون عند الاحتضار أو عقبه ، يحس فيها بغمرة شديدة عند الموت وإذ يقبر والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار{[1034]} وإنهم في هذه الحال التي يحتضرون وبعد موتهم ، الملائكة تبسط أيديهم بالشدة والعذاب المهيأ لهم ولذا قال تعالى:( والملائكة باسطوا أيديهم ) تقول لهم بلسان الحال ( أخرجوا أنفسكم ) يقال بسط يده بالعطاء وبسط يده بالحرب ، والبلاء والشدة ، وذكرت في القرآن كثيرا بمعنى الشدة ، ولذا قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 11 ) ( المائدة ) وقول المعتدي عليه من ولدى آدم:( لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ 28 ) ( المائدة ) فمعنى قوله تعالى:( والملائكة باسطوا أيديهم ) أي بالضرب والعذاب الذي لا مناص منه ، ولا يمكنهم التخلص منه ولا الخروج ، والملائكة يقولون لهم بالقول أو بلسان الحال:( أخرجوا أنفسكم ) أي انه قد أحيط بهم فلا خلاص لهم ، ويقال أخرجوا أنفسكم إن استطعتم إلى الخروج سبيلا فهو مصيركم ونهايتكم وما صرتم إليه ، بأعمالكم المتكافئة بالشر التي حبط فيها كل خير ، لأنه قد طمس على بصائركم .
وقال بعض المفسرين:إن قوله تعالى:( أخرجوا أنفسكم ) خطاب لهم حال الاحتضار كأنه يقال لهم سلموا أنفسكم لنا وقد علمتم أن هذا اليوم ساعة الأداء لما كسبتم وما قدمتم فتأخذوا جزاءه ، وقالوا:إن هذا تشبيه لحالهم بحال المدين الذي يلازمه غريمه ، فلا يستطيع الهرب منه حتى يؤدى الذي عليه ونرى أن الأول اوضح وأبين والنتيجة واحدة .
وقوله تعالى:( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) فيه اداة شرط وهي ( لو ) وفعل شرط والجواب غير مذكور يدل عليه التعبير بغمرات الموت ، وبسط الملائكة ، وحالهم من انهم لا يستطيعون حولا ولا طولا ، ويكون الجواب ، لرايت ثم رايت هولا شديدا هو جزاء وفاقا لما قدموا من سوء وفعلوا من شر .
وقد ذكر الله الجزاء فقال ( اليوم تجزون عذاب الهون ) اليوم فيما يظهر هو ما بعد القيامة من عقاب وعذاب الهون هو العذاب الذي يكون هوانا وذلا واستحقارالامرهم وإضافة العذاب الى الهوان إضافة تدل على أن الهوان ملازم للعذاب فقد استكبروا على الحق ، وقالوا غير الحق ، فكانت العقوبة من جنس الجريمة ولقد قال سبحانه في سبب ذلك:( بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) أي السببفي العقاب أمران جمع الله فيهما الظلم كله:
أولهما:أنهم كانوا يقولون على الله غير الحق فيشركون به ، ويقولون إنه ثالث ثلاثة ويقولون:المسيح اله ، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله تعالى وقوله تعالى:( كنتم تقولون ) تدل على استمرار قولهم وعدم انقطاعه عنهم ، وإصرار عليه ، لأن ( كنتم ) تدل على الاستمرار والمضارع يدل علىتجدد القول آنا بعد آن . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
ثانيهما:أن الآيات البينات الهادية من معجزات دالة ، ومن دلائل أخرى فكانوا يعرضون عنها ، ويستكبرون ويظنون أن الالتفات إليها فيه هوان عليهم ، وكبرياؤهم منعهم عن الالتفات إلى الحق ، فاستكبروا وتجبروا وخاب كل جبار عنيد وكان الاستكبار متضمنا الإعراض عن الآيات ولذا عدى ب ( عن ) التي تدل على التجاوز والإعراض إذ قال تعالى:( وكنتم عن آياته تستكبرون ) أي كنتم تستكبرون معرضين عن آياتنا الدالة ولأنها قاطعة على الحق وفيها الهداية ولكن لا تهتدون استكبار وإعراضا فنالوا جزاءهم .ولقد بين الله تعالى جزاءهم الذي أشار إليه في الآية السابقة بينةوقد زالت عنهم أسباب الطغيان والكبرياء .