{افْتَرَى}: أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أفريه فرياً ،فكأن الافتراء هو القطع على خبر لا حقيقة له ،والفترة الغشية ،شدائد تحيط بصاحبها وتغمره فتولّد السكرات .
{غَمَرَاتِ}: جمع غمرة وغمرة كل شيء معظمه وغمرات الموت شدائده ،وأصله الشيء يغمر الأشياء فيغطّيها ،وجعل مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها «الجهل المطبق » وسمي من يرمي نفسه في الحرب مغامراً .
{الْهُونِ}:بضم الهاءالهوان ،والهَوْنبفتح الهاء: الدعة والرفق ومنه{يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً} [ الفرقان:63] .
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} إن خطورة الظلم تتحدد بنقطتين:
النقطة الأولى: الآثار السلبية للفعل أو للكلمة الصادرة من الإنسان ،في ما تثيره من أوضاعٍ سيّئةٍ في حياة الناس .
النقطة الثانية: الجهة التي يمثّل الظلم معنى التحدّي العملي لحقّها وسلطتها ومكانتها في ما تمثله من موقعٍ كبير في قداسته وعظمته وحرمته .
وفي ضوء ذلك ،نفهم كيف تمثّل هذه النماذج التي تتحدث عنها الآية ،المرتبة العليا من الظلم ..ففي الكلمة الأولى ،نواجه الذي افترى على الله كذباً بسبب ما ينسبه إلى الله من كلمات وشرائع ومفاهيم مما لم يقله الله ولم يشرّعه ولم يوح به ..
وفي الكلمة الثانية ،نواجه الذي ادّعى نزول الوحي عليه زوراً وبهتاناً ،لأنه لم يوح إليه بشيء ،لأن للوحي علامات ودلالات لا يملكها في ما يملكه أنبياء الله من ذلك .
وفي الكلمة الثالثة: نواجه الذي يقول:{سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} في ما يعبّر عنه ذلك من استهانةٍ بالوحي ،وغرورٍ يتحرك في خطّ الاستعلاء ،وتحدٍّ لرسل الله بدون حق أو سلطان ..
..وفي كل هذه النماذج ،نجد الخطورة الكبرى تتمثّل في التعدّي على مقام الله سبحانه ،والانتقاص من حرمته ،عندما يقف هذا الإنسان الضعيف في قوّته ،الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ،ليتحدّى الله بكلامه ،فيفتري عليه الكذب ،ويدّعي لنفسه الصلة به بطريق الوحي من دون حق ،ويستهين بما أنزله الله على رسله ،فيزعم لنفسه القدرة على أن يُنزل مثله ..وأيُّ ظلمٍ أبشع من هذا الظلم بما يمثّله من اعتداءٍ على حرمات الله ،لأن الظلم لا يعني الاعتداء من موقع القوة ،بل يشمل العدوان من موقع التمرّد والافتراء والعصيان .
أما الآثار السلبية الناتجة عن هذه الكلمات في ما تمثله من انحراف ،فهي تزييف الوجه المشرق للحياة في فكرها وشريعتها وموقعها وصورتها الحقيقيّة ،ما يؤدي إلى تحريف الخط الفكريّ والعملي للإنسان ،وإلى تخريب المسيرة الصادقة ،في ما تثيره هذه النماذج أمامها من عقباتٍ ومشاكل وتحدّيات ،الأمر الذي يحوّل الطاقات إلى ساحات للصراع ،بدلاً من تحريكها في خط البناء والتأسيس .
وإننا لنعرف أن مشكلة الإنسان في الحياة هي مشكلة هؤلاء الذين لا يرضون للصدق وللحق أن يفرض مفاهيمه وشعاراته وسلطته على الساحة ،فيقفون أمامه ،ليواجهوه بالعنف والقوة ،وليفسحوا المجال للباطل وللكذب أن يركِّز قواعده في داخلها .وبذلك تتحطّم القيم الكبيرة ،وتتهدّم القواعد الثابتة ،ويسير الإنسان في طريق الضياع نحو المجهول .وفي ذلك الظلم كل الظلم ،لأنه ليس ظلم الفرد في ماله أو في جسده ،بل هو ظلم الإنسان في حاضره ومستقبله ،وظلم الحياة في حركتها وقوّتها ،وفي انفتاحها على إشراقات الحق في ينابيع الضياء .
ومن هنا نستطيع أن نقرّر أن الذين يظلمون الحياة والإنسان في حرمان الساحة من حركة الحقيقة ،هم أشدّ من الذين يتعسّفون في استعراض عضلاتهم ضد الضعفاء ،لأن ظلم الفكرة يلغي معنى الحياة في إحساس الإنسان ،أمّا ظلم الجسد ،فإنه قد يثير الألم ولكنه يعمّق إحساس الروح بانطلاقة الحياة ويثيرها نحو عالم جديد حُرٍّ .
ولهذا ،فإن قضية الحرية في الفكر ،تأخذ الدور الأكبر والأوسع من قضية الإنسان في جهاده من أجل أن يحقق إنسانيته ،تماماً كما هي قصة الحرية في الجوانب الأخرى في الحياة ،فإن الإنسان قد يصبر على الحدّ من حريته في أن يأكل كما يشاء أو يلبس كما يريد ،ولكنه لا يصبر كثيراً على الحدّ من حريته في أن يفكر ويحسّ بانفتاح ،ولهذا وجدنا الإسلام يثير في وجدان الإنسان إرادة التفكير ،ويمنحه حريّة الفكر ،ويحاول أن يحيط ذلك بضوابط من خلال ما يريد أن يوجهه إليه من مناهج الفكر ،ويحركه نحو انطلاقة الحوار ،لئلا تتحول نزعة الحريّة إلى ما يشبه الفوضى .
الذل والهوان والعذاب جزاء للظالمين
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} وهذه الصورة الحيّة المعبّرة التي يعرضها القرآن لحالة الضعف المدمّر الذي ينتهي إليه هؤلاء المتمرّدون على الله ورسوله ،في ما أعطوه لأنفسهم من حجمٍ كبيرٍ ،يوحي للآخرين بالقوّة التي يملكونها في مواجهة رسالات الله .
فها هم الآن في غمرات الموت ،ينتقلون من شدّةٍ إلى شدّة ..في إحساس عميقٍ بالألم ،وشعورٍ مريرٍ بالضياع ،وانسحاقٍ ذليل أمام الضعف المطلق الذي تمثله حالة انتزاع الحياة من أجسادهم ،عند اقتراب الموت منهم ،في هذا الجو الكئيب الذي يقف فيه الملائكة في صورة الجماعة المكلّفة بمهمّةٍ محدّدةٍ ،ولهذا ،فإنهم يبسطون أيديهم لإتمام عملية التسلّم ،في أسلوب يوحي بأن على هؤلاء الظالمين أن يخرجوا أنفسهم باختيارهم ليسلّموها ،من دون أن يملكوا فرصةً أخرى للتردد أو للرفض ،ما يخلقفي وعيهمالشعور بتفاهة دورهم ووجودهم وضعف قوتهم أمام الله ...
ولا يقف الملائكة عند هذا الحدّ ،بل يعلنون لهم كيف تكون النهاية لهذا الاستكبار والتمرّد على الله ورسله ..فليست القضية قضية نقلٍ للروح من مكانٍ إلى مكان ،ولكنها قضية عذاب الذلّ والهوان الذي يواجههم عند الله بسبب أعمالهم وأقوالهم{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} بما كنتم تفترون وتكذبون وتمنحون أنفسكم صلاحية التنظير والتشريع بغير علمٍ أو حجة ،{وَكُنتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} في ما توحون به لأنفسكم من الشعور بالكبرياء ،وفي ما تمارسونه في سلوككم من الاستعلاء على الآخرين من عباد الله الضعفاء ،وفي ما تواجهون به الأنبياء من استهزاءٍ وتمرّدٍ .
وقد نستوحي من تأكيد الآية على{عَذَابَ الْهُونِ} أن الله يريد أن يثير في نفس الإنسان الشعور بأن العذاب الأخرويّ يواجه الإنسان بالإذلال ،بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من آلام ..ليحرّك فيه مشاعر العزّة ،كأسلوب يوجهه إلى الابتعاد عما يجلب إليه الذل الذي لا ذلّ مثله ،لأنه يمثّل حالة الانسحاق الكلي الذي لا يملك الإنسانمعهلنفسه أيّة قوَّة أو ثباتٍ ،وليركز في نفسه قيمة البحث عن العزّة في الآخرة ،إذا كان يفكر بهذه القيمة الإنسانية ،لأنها ترتكز على قاعدةٍ قويّة في ما ترتبط به من رضوان الله من جهةٍ ،وما تنطلق به من العمل الصالح من جهةٍ أخرى ..
أمّا عزّة الدنيا فإنها لم ترتكز على هذين العاملين ،فهي لا تملك قيمة ذاتية تذكر ،لأنها ترجع إلى عوامل طارئة ،في ما يملكه الإنسان من مالٍ ،وفي ما يعيشه من علاقاتٍ وأوضاعٍ ومواقف ،بعيداً عن العمق الروحي الذي يهيمن على كل أبعاد النفس ،فلا يترك فيها أيّ موقفٍ للذل أمام نزوةٍ أو شهوةٍ أو طمعٍ طارىء ..
وقد نتوقف عند كلمة{بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} فنرى أن إعطاء الشرك هذا العنوان ،وهو القول على الله بغير الحق ،يدلّ على أن الله يريد من الإنسان أن يكون صادقاً معه ،في ما يعتقده من عقائد ،وفي ما يثيره من أفكار ،أو يقفه من مواقف ..فلا بدَّ له من التأمّل والتركيز على العمق في سبيل الحصول على القناعات الإيمانية والفكرية والعمليّة ،لأن أيّ فكر حقّ هو قول على الله بالحق ،بينما يكون الفكر الباطل قولاً عليه بغير الحق في ما يمثله الحق من ارتباطٍ بالله ،الأمر الذي يبعد القناعة بالحق والباطل أن تكون حالةً ذاتية شخصيةً مرتبطة بالشخص ،فيجعلها حديثاً مرتبطاً بالله ومنسوباً إليه ،فتكون النسبة إليه صدقاً في حالةٍ ،وافتراءً في حالةٍ أخرى .
وقد نتوقف عند كلمة{عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} فهي توحي أنّ موقف الكفر أو الابتعاد عن الحق لا يمثّل حالةً فكريةً موضوعيّةً مضادّة لخط الإيمان ،بل يمثِّلفي عمقهعقدةً ذاتيةً استعلائية تمنع الإنسان من الخضوع للحق ،الذي يعتبرونه خضوعاً لدعاة الحقّ ،وتنازلاً ذاتيّاً عن قناعاتهم التي يعتبرونها جزءاً من الذات ،ما يجعل من التعصب لها تعصباً للذات ،ومن الحفاظ عليها حفاظاً على الكرامة وعلى الوجود .ولعلنا نجد ذلك واضحاً في الكثير من الممارسات الفكرية والعملية المضادّة التي تنطلق من خلفيّات الاستكبار والاستعلاء ،بعيداً عن أيّة قناعةٍ فكريةٍ أو روحيّة .
وقد نستوحيمن ذلكأن التواضع ،والعمل على بناء الشخصية الإنسانية عليه ،لا يتصل بالجانب السلوكي العملي للإنسان ،بل يمتد إلى الجانب الفكريّ منه ،في ما يتركه من تأثير على مواجهته للأفكار بروحيَّةٍ متواضعةٍ للحقّ ،فلا تتعقَّد من أيّ تغييرٍ في الفكر الذي تتبناه ،لمصلحة فكرٍ آخر يتبناه آخرون ،لأنها لا ترى الذات صنماً تتعبد له ،لتحافظ على موقعها من ناحيةٍ مزاجيةٍ ،بل ترى فيها كياناً يعيش الإنسان مسؤوليته من أجل أن يرتفع به إلى مستوى التكامل الفكري والروحي والعملي ،وبذلك فإنه لا يرى في الفكر الذي يتبناه أو يتبناه الآخرون ،شيئاً يمثل الانتماء الذاتي للشخص ،بل هو الخط الذي ينتمي إليه الآخرون بدلاً من أن ينتمي إليهم ،في عمليّة التقييم ،فإن قيمة الإنسان السلبية والإيجابية تتحدد بالفكر الحق ،أو بالفكر الباطل الذي ينتمي إليه ،في ما يمثِّله من وعيٍ سلبيٍّ أو إيجابيّ ،وبذلك يمكن أن نقول أن هذا الإنسان واعٍ أو ليس بواعٍ ..
وفي ضوء ذلك ،لا يعتبر التنازل عن أيّ فكرٍ لمصلحة فكر آخر تنازلاً للذين يتبنونه ؛وهذا ما يجب أن نؤكد عليه في خط التربية الأخلاقية في الإيحاء بالمدلول الواسع للنتائج الإيجابية في مجال الفكر والعمل ،لأن حركة الشخصية لا تختلف في ما ترتكز عليه من القاعدة الأخلاقية الواحدة .