{فُرَادَى}: جمع فردوهو الذي لا يختلط به غيره ،فهو أعم من الوتر وأخص من الواحدكما يقول الراغب .
{خَوَّلْنَاكُمْ}: التخويل الإعطاء وأصله تمليك الخول كما أن التمويل تمليك الأموال ،وخوّله الله أعطاه مالاً .
{بَيْنَكُمْ}: البين: مصدر بان يبين إذا فارق .قال أبو زيد: بان الحيُّ بينونة وبيناً إذا ظعنوا وتباينوا أي تفرقوا بعد أن كانوا جميعاً .
بعث الإنسان يوم القيامة فرداً
ويستمر الأسلوب الذي يريد اللهمن خلالهتصوير حالة الضعف المطلق ،التي تحيط بالإنسان من كل جهةٍ ،ليوحي إليه بأنه لا يملك شيئاً إلا بالله ،فهو الفقير في وجوده ،وهو الفقير في ما يحقق له استمرار ذاك الوجود في تفاصيل أوضاعه ،فلا حول له ولا قوّة إلا بالله ..
ونرى في هذه الآية كيف أن الله يصوِّر له الوضع الذي يبعثه فيه إليه فرداً ليس معه أحد ،كما خلقه من العدم وليس معه أحد ..{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} وإذا كان قد حصل في وجوده الأوّل على بعض القوة ،في ما يحيط به من الناس القريبين منه أو البعيدين عنه ،أو في ما يملكه من المال ،فإن الله هو الذي أعطاه ذلك ،وأراد له أن يحصل عليه ويتنعم به ،فهو الذي رزقه الإخوان والأولاد ،وهو الذي خوّله المال ...حتى إذا شاءت إرادة الله أن يترك ذلك كله ،ويرجع كما كان من دون مالٍ أو إخوان ،أخذه إليه أخذ عزيزٍ مقتدر ..فها هو يقف الآن أمام الله ،فرداً ضعيفاً وحيداً فقيراً لا يملك شيئاً ولا يملك أحدٌ أن ينفعه بشيء ،أو يعرف عنه أيّ شيء ..
إن الله يريد للإنسان أن يختزن في ذهنه الصورة التي توحي بأن كل شيء لديه هو من الله ،فلا يجوز له أن يفكر بأيّ تصرف ينحرف به عنه ،وبأيّ إنسان يطيعه من دونه ،لأن مثل هذا الإنسان لن يقف معه عند الشدّة ،ولن يجده في موقف القيامة .
وهذا ما أراد الله أن يثيره في ذهن الإنسان من هذه الصورة الأخرويّة التي يشاهد فيها نفسه ،وهو يتلفت يميناً وشمالاً ،ليبحث عن هؤلاء الذين أطاعهمفي الدنيافي معصية الله ،وخضع لهم ،وتمرّد على الله لأجلهم ممن كان ينتمي إلى خطّهم ،ويسير في طريقهم ،فلا يجد أحداً منهم ..ويأتيهم النداء من الله في أسلوب السخرية والتبكيت:{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ} في ما تشركونهم به في العبادة ،أو في العقيدة ،فإذا كانوا شركاءكما تزعمونفلا بد لهم من أن يكونوا معكم ،ليمنحوكم الحماية في ما يملكون من القوة ..ولكن الحقيقة المرّة تفرض نفسها عليهم{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} لأن الروابط التي كانت بينكم لم تكن قويّة شديدة ،فلم تتماسك بل تقطعت لدى أوّل تحدٍّ ،وأصبحت هباءً ..{وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} لأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ،فكيف يملكونه لكم .
وهكذا ينتهي هذا الفصل بالموقف المرير الذي يثير مشاعر الحسرة والألم في نفس هذا الإنسان ،ليكون ذلك عبرةً له ،من أجل أن يجنّب نفسه صعوبته وحراجته ،فيتفادى أسبابه العملية في الدنيا ،قبل أن ينتقل إلى الآخرة .
البركة في التصور القرآني
لقد جاء في الآيات السابقة كلمة{مُبَارَكٌ} وصفاً للقرآن ،وقد أثير الحديث حول طبيعة هذه البركة هل هي حسية خاضعة للأسباب والمعطيات العادية في علاقة المسببات بأسبابها بمعنى الزيادة والنموّ المادي والنفع العملي ،كما جاء في تفسير قوله تعالى:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} [ مريم:31] أي نفاعاً للناس ،أو هي معنوية روحية تنفتح على الجانب الروحي للإنسان من خلال الله سبحانه الذي يفيض الخيرات والبركات على الناس من لطفه ورحمته كما في قوله تعالى حاكياً عن الملائكة في حديثهم مع إبراهيم{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} ؟!
والظاهر أنّ الله يفيض البركة على الحياة وعلى عباده بالخيرات المتنوعة في الجانب الماديّ والمعنويّ بما يمنحهم من نعم الحياة الدنيا التي تتوقف عليها شروط حياتهم ونموها أو زيادة لذائذها وشهواتها ،ومما يعطيهم من سعادة الروح ونموّ القلب وصفاء الروح والرضوان منه والطمأنينة والسكينة النفسية .
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل أن البركات الإلهية النازلة من الله تتجاوز الأسباب والقوانين الطبيعية المتصلة بوجود الأشياء ،فلو أراد الله أن يبارك للإنسان في رزقه ،فهل يعني ذلك أنه يرزقه من غير أسباب الرزق التي خلقها الله في الحياة ،أم أنها تتحرك من خلال الأسباب ،بمعنى أن الله سبحانه يحرّك هذه الأسباب لتؤدي دورها في إنتاج الخير للإنسان بالطريقة التي تنسجم مع حاجاته الجسدية والمعنوية وتتحقق بها أغراضه من دون فسادٍ ولا ضياع ؟
إنَّ تدخّل الله في حركة البركة في حياة الإنسان لا يلغي الأسباب ولا يبطلها عن التأثير ،لأنها جزءٌ من قانونه الذي أودع في داخله سرّ حركة الأشياء ووجودها ،بل إنه يمنحها قوّة وحيويّة وأسباباً خفيّة في بعض الحالات ،فالمسألةكما يقول صاحب تفسير الميزانأن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الأسباب لا في عرضها حتى يؤول الأمر إلى تزاحم أو إبطال .
فهناك شيء من المادية للبركة في طبيعة الأشياء ،وهناك شيء من الروحية الإلهية في حركة السببية في داخل أوضاعها وشؤونها .
إن الله سبحانه هو ولي الأشياء ،وهو مبدع نموّها وزيادتها وسعتها في الحسيات والمعنويات ،ولهذا فإن البركة مظهر من مظاهر رحمته ولطفه ورعايته للواقع الإنساني الذي هو أثر من آثار ربوبيته للكون كله ،وهو القادر على إيجادها بالأسباب الطبيعية وغيرها بحسب حكمته في تقدير الأمور ورعايته للإنسان والحياة .