{فَالِقُ}: الفلق: شقّ الشيء وإبانة بعضه عن بعض: يقال: فلقه فانفلق ،والفلق: الصبح لأن الظلام ينفلق عنه .والفلق: المطمئن من الأرض بين ربوتين كأنّه منشقّ عنها .
{الْحَبِّ}: جمع حبّة ،وهو ما لا يكون له نوى كالبُرّ والشعير .
{وَالنَّوَى}: جمع نواة .
وهذه جولةٌ قرآنيّةٌ في رحاب الكون ،يريد الله من خلالها حث وعي الإنسان على التأمّل والتفكير في عظمته من خلال الإحساس بعظمة مخلوقاته ،ليشعر بارتباط كل شيءٍ به ،ورجوع كل مخلوقٍ إليه ،فيجد كل شيء صغيراً من خلال حاجته إليه ..
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} إننا نقف أمام هذه الحبة الجامدة ،من الحنطة ،أو الشعير ،أو الأرز ،وهذه النواة من الثمر والزيتون وأمثالهما ..فلا نجد فيها أيّ مظهرٍ من مظاهر الحركة والحياة ،حتّى إذا وضعناها في الأرض ،ومسّها الماء ،انشقّت من أسفلها وأعلاها ،وخرجت من الشقّ الأسفل عروق تهبط في الأرض ،لتمتصّ الماء وكل عناصر الحياة في التربة ،في ما تشتمل عليه من خصائص ،وخرجت من الشق الأعلى عروقٌ تتحوّل إلى شجرةٍ تمتد في الهواء ،ثُم تذوب الحبّة والنواة ،لتتحوّل إلى جسمٍ واحدٍ تمتدُّ عروقه في الأرض ،وتنطلق أغصانه في الفضاء ،فمن الذي أودع في هذه الحبة والنواة سرّ النمو والحياة ؟مَن الّذي حرّك فيها كل عناصر النمو تلك ؟لا شيء تحمله في ذاتها يحتم ذلك كله ،بل هو الله الذي أعطى لكل شيء سببيّته ،وألهم كل شيء هداه .
مخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} إنها القدرة الإلهية العظيمة المبدعة ،التي لا تتجمّد في حدود الحياة والموت ،بل تحرك في إبداعها الحياة من قلب الموت ،وتزرع الموت في قلب الحياة ،فتخرج الميت من الحيّ ،وتخرج الحيّ من الميت .وهكذا تريد هذه الآية أن توحي بالخط العام الذي تتمثل فيه القدرة في هذا التفاعل بين الحياة والموت ،في الوقت الذي يوحي التقابل بينهما بالتضادّ .
وقد مثّلوا لإخراج الحيّ من الميّت ،بالنبات الغضّ الطريّ الخضر المنبثق من الحبة اليابسة ،ولإخراج الميت من الحيّ ،بالحب اليابس من النبات الحي النامي ،ومثَّل له آخرون بالإنسان أو الحيوان الذي يخرج من النطفة وهي موات ،أو بالنطفة التي تخرج من الإنسان الحي وهي موات .ومثَّل له بعضٌ بغير ذلك .وربما كانت الكلمة شاملة للجميع ،لأن الفكرة تتحرك من خلال المبدأ الذي يوحي بعظمة القدرة ،بعيداً عن التفاصيل التي يريد الله للإنسان أن يبحث عنها في حركة الوجود المتنوعة على الأرض{ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي تصرفون عنه إلى غيره ،ممن لا يملك أيّ شأنٍ من شؤون القدرة الخالقة المبدعة .
وقد علَّق صاحب الكشّاف على هذا الاختلاف في التعبير بين فقرة{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} حيث جاءت بصيغة الفعل المضارع وبين فقرة{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} حيث جاءت بصيغة اسم الفاعل ،فقال عن الفقرة الثانية: «عطفهأي ومخرجعلى فالق الحَبّ والنوى لا على الفعل ،ويخرج الحي من الميت موقعه موقع الجملة المبيّنة لقوله:{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ،لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحيّ من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ،ألا ترى إلى قوله:{وَيُحْيِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [ الروم:19]