التّفسير
فالق الإصباح:
مرّة أُخرى يوجه القرآن الخطاب إِلى المشركين ،ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذابة وفي نماذج حية من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه .
في الآية الأولى يشير إِلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض ،وفي الآية الثّانية يشير إِلى ثلاثة من الظّواهر السماوية .
يقول القرآن الكريم أوّلا: ( إِنّ الله فالق الحب والنوى ) .
«الفلق » شقّ الشيء وإِبانة بعضه عن بعض{[1247]} .
و«الحب » و«الحبة » تقال لأنواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات التي تحصد ،كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضاً{[1248]} .
و«النوى » من النّواة ،قيل إِنّه يخص نوى التمر ،ولعل هذا يرجع إِلى كثرة التمر في بيئة العرب حتى كان العربي ينصرف ذهنه إِلى نوى التمر إِذا سمع هذه الكلمة .
ولننظر الآن إِلى ما يمكن في هذا التعبير:
ينبغي أن نعلم أنّ أهم لحظة في حياة الحبّة والنّوى هي لحظة الفلق ،وهي أشبه بلحظة ولادة الطفل وانتقاله من عالم إِلى عالم آخر ،إِذ في هذه اللحظة يحصل أهم تحول في حياته .
وممّا يلفت الانتباه أنّ الحبّة والنّواة غالباً ما تكونان صلبتين ،فنظرة إِلى نوى التمر والخوخ وأمثالهما ،وإِلى بعض الحبوب الصلبة ،تكشف لنا أنّ تلك النطفة الحياتية التي هي في الواقع صغيرة ،محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب ،وانّ يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الاختراق خاصية التسليم والليونة أمام اختراق نطفة النبات ،كما منحت النطفة قوة اندفاع تمكنها من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة ،هذه حقّاً حادثة عجيبة في عالم النبات لذلك يشير إِليها القرآن على أنّها من دلائل التوحيد .
ثمّ يقول: ( يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) .
يتكرر هذا التعبير كثيراً في القرآن مشيراً إِلى نظام الموت والحياة وتبديل هذا بذاك ،فمرّة ترى الحياة تنبعث من مواد جامدة لا روح فيها في أعماق المحيطات ومجاهل الغابات والصحارى ،فيخلق من تركيب مواد كل واحدة منها سم قاتل مواد حيوية ،وأحياناً ترى العكس ،فبإِجراء تغيير بسيط على كائنات حية قوية مفعمة بالحياة تراها قد تحولت إِلى كائن لا حياة فيه .
إِنّ موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحية من أعقد المسائل التي لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إِلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها لتخطو إِلى أعماق مجهولاتها ،ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحول إِلى كائنات حية .
قد يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الإِنسان أن يصنع كائناً حياً باستخدام التركيبات الطبيعية المختلفة وتحت ظروف معقدة خاصّة ،وبطريقة تركيب أجزاء مصنعة ،كما يفعلون بالمكائن والأجهزة ،غير أن قدرة البشر «المحتملة » في المستقبل لا تستطيع أن تقلل من أهمية مسألة الحياة وتعقيداتها التي تبدأ من المبدع القادر .
لذلك نجد القرآنوفي معرض إِثبات وجود اللهكثيراً ما يكرر هذا الموضوع ،كما يستدل أنبياء عظام كإِبراهيم وموسىعلى وجود مبدأ قادر حكيم بمسألة الحياة والموت لإِقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون .
يقول إِبراهيم لنمرود: ( ربّي الذي يحيي ويميت ){[1249]} ،ويقول موسى لفرعون: ( وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى ){[1250]} .
ينبغي ألاّ ننسى أنّ ظهور الحي من الميت لا يختص في بداية ظهور الحياة على الأرض فقط ،بل يحدث هذا في كل وقت بانجذاب الماء والمواد الأُخرى إِلى خلايا الكائنات الحية ،فتكتسي كائنات غير حية بلباس الحياة ،وعليه فإنّ القانون الطبيعي السائد اليوم والقائل بأنّه لا يمكن في الظروف الحالية التي تسود الأرض لأي كائن غير حي أن يتحول إِلى كائن حي ،وحيثما وجد كائن حي فثمّة بذرة حية وجد منها هو قانون لا يتعارض مع ما قلناه ،( فتأمل بدقّة ) !
ويستفاد من روايات أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) في تفسير هذه الآية والآيات المشابهة لها ،أنّ ذلك يشمل الحياة والموت الماديين كما يشمل الحياة والموت المعنويين أيضاً{[1251]} فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين ،وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتقين الأخيار ،ناقضين قانون الوراثة بإِرادتهم واختيارهم .
وهذا بذاته دليل آخر على عظمة الخلاق الذي أعطى الإِنسان هذه القدرة والإِرادة .
النقطة الأُخرى التي ينبغي الالتفات إِليها هي أنّ «يخرج » الفعل المضارع و«مخرج » اسم الفاعل ،يدلان على الاستمرار ،أي أنّ نظام ظهور الحي من الميت وظهور الميت من الحي نظام دائم وعام في عالم الخلق .
وفي ختام الآية توكيد للموضوع: ( ذلكم الله فأنى تؤفكون ) أي هذا هو ربّكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي ،فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق وتميلون إِلى الباطل ؟( ذلكم الله فأنى تؤفكون )