/م93
{ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} هذه جملة مستأنفة بين الله تعالى فيها ما يقوله لهؤلاء يوم القيامة بعد بيان ما تقوله لهم ملائكة العذاب كما جزم ابن جرير ، لا معطوفة على ما قبلها من حكاية قول الملائكة كما حكاه الرازي أحد وجهين وزعم أنه أقوى ، غافلا عن قوله تعالى:{ خلقناكم} ولا ينافي هذا الخطاب قوله تعالى:{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة} [ البقرة:174] لأن معناه أنه لا يكلمهم كلام تكريم ورضاء ، أو هو كناية عن الغضب والإعراض ؛ والمعنى لقد جئتمونا متفرقين فردا بعد فرد{[978]} أو وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان ، والأهل والإخوان ، والأنصار والأعوان ، مجردين من الخول والخدم والأملاك والأموال ، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا ، أكد تعالى الخبر بمجيئهم بعد وقوعه تذكيرا لهم بما كان من جحودهم إياه واستعبادهم لوقوعه ، كما ذكرهم بمشابهة بعثهم وإعادتهم لبدء خلقهم ، وهو المثل الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربهم .
{ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} فلم تقدموا لأنفسكم منه شيئا بين أيديكم .معنى خولناكم أعطيناكم ، وأصل التخويل إعطاء الخول ، كالعبيد والنعم ، ويعبر بالترك وراء الظهر عما فات الإنسان التصرف فيه والانتفاع به ، لفقده إياه أو بعده عنه ، وبالتقديم بين الأيدي عما ينتفع به في المستقبل ، فالمراد هنا أن ما كان شاغلا لهم من المال والولد ، والخدم والحشم ، والأثاث والرياش ، عن الإيمان بالرسل والاهتداء بما جاؤوا به ، لم ينفعهم كما كانوا يتوهمون أن الله فضلهم به على المؤمنين ، وأنهم يمكنهم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة ، إن صح قول الرسل أن بعد الحياة الدنيا حسابا وجزاء في حياة أخرى ، وإنما كان يمكنهم الانتفاع به لو آمنوا بالرسل وأنفقوا في سبيل الله ، ولولا أن هذا هو المراد لاستُغنيَ عن هذه الجملة بما قبلها ، ومثل هذا يقال في قوله:
{ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} فإن الأديان الوثنية قائمة على قاعدتي الفداء والشفاعة كما تقدم بيانه مرارا ، أي وما نبصر معكم شفعاءكم – من الملائكة وخيار البشر وغيرهم- أو تماثيلهم وقبورهم – الذين زعمتم في الدنيا أنهم فيكم شركاء لله تعالى ، تدعونهم ليشفعوا لكم عند الله ويقربوكم إليه زلفى ، بتأثيرهم في إرادته ، وحملهم إياه على ما لم تتعلق في الأزل به .وقد تقدم شرح هذه العقيدة الوثنية والتفرقة بينها وبين أحاديث الشفاعة في تفسير هذه السورة وغيرها .
{ لقد تقطع بينكم} البين الصلة أو المسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء فيضاف دائما إلى المثنى كقوله تعالى:{ فأصلحوا بين أخويكم} [ الحجرات:10]{ فأصلحوا بينهما بالعدل} [ الحجرات:9] أو الجمع لفظا أو معنى كقوله تعالى:{ أو إصلاح بين الناس} [ النساء:114] ولا يضاف إلى الاسم المفرد إلا إذا كرر نحو{ هذا فراق بيني وبينك} [ الكهف:78]{ ومن بيننا وبينك حجاب} [ فصلت:5] ويستعمل في الغالب ظرفا غير متمكن وفي القليل اسما .وقد قرأه هنا عاصم وحفص عنه والكسائي بفتح النون أي تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والخلة ، وقدر بعضهم:تقطع الوصل بينكم .وقرأه الجمهور بالرفع على الفاعلية قالوا أي تقطع وصلكم أو تواصلكم .
{ وضل عنكم ما كنتم تزعمون ( 94 )} أي وغاب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، وتقريب الأولياء ، وأوهام الفداء ، إذ علمتم بطلان غروركم به واعتمادكم عليه ، أو ضل عنكم الشفعاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ، ففي الكلام نشر على ترتيب اللف ، فإن تقطع البين راجع إلى ترك ما خولوا ، وفقد الشفاعة أو الشفعاء راجع إلى ما بعده .وجملة القول أن آمالهم خابت في كل ما كانوا يزعمون ويتوهمون .وقد سبق لهذا نظير في الآيات ( 20-24 ) من هذه السورة فراجع تفسيرها في هذا الجزء .