مناسبة نزول هذه الآيات:
جاء في أسباب النزول للواحدي ،قال ابن عباس: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله( صلى الله عليه وسلّم ) عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة ردّه عليهم ،ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم ،وكتبوا بذلك الكتاب وختموه ،فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ،والنبي ( صلى الله عليه وسلّم ) بالحديبية ،فأقبل زوجهامسافر من بني مخزوم ،وقال مقاتل: هو صيفي بن الراهبفي طلبها وكان كافراً ،فقال: يا محمد رد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ،وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ،فأنزل الله تعالى الآية:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}[ 1] .
ربما كانت هذه الرواية صحيحةً بالنسبة للأجواء التي أحاطت بالمضمون التشريعي للآية ،فتكون القضية هي أن توقف النبي عن إرجاع هذه المرأة ،قد يكون ناشئاً من ملاحظته أن المعاهدة لا تشمل النساء ،بل تختص بالرجال[ 2] ،في ما يمكن أن يكونوا قد لاحظوه من الخوف على هروب الرجال إلى النبي ،بعد أن أصبح في موقع القوة التي تجذب الناس إليه في ذلك المجتمع الذي يخضع للقوة رغبةً أو رهبةً ،مما قد يضعف مواقع المشركين ،أما النساء فليست واردة في الحساب ،لأنها ليست في الموقع الذي يمكنها من الهرب في وعي المجتمع هناك ،الأمر الذي لا يجعل القضية ملحوظةً في المعاهدة .وقد جاء الوحي مؤكداً لذلك .وربما كانت القضية لديه أنه كان لا يملك تشريعاً منزلاً من الله في هذه الواقعة ،فهل يحل إرجاع المرأة المسلمة إلى الزوج الكافر ،أو لا يحل ذلك ؟لأن التشريع المتدرج لم يكن قد تعرض إلى ذلك ،أو أنه لم يدخل في مفردات التفاصيل بحيث تشمل مثل هذه الحالة التي تدخل في صلب المعاهدة ،في ما يمكن أن يكون بمثابة الاستثناء من القاعدة التحريمية العامة .وقد كان توقفه منطلقاً من أن المعاهدات لا تشمل المواقع التي تتضمن الحرام الشرعي ،فكان يريد أن يعرف حكم الله ،فجاءت الآية لتضع القضية في نصابها الشرعي الصحيح .
وإذا لم تكن الرواية صحيحة ،فإن القضية تتصل بالموقف العام من هذه المسألة في الأجواء الإسلامية العامة ،في علاقات المشركين بالمسلمين ،في نطاق المعاهدات المكتوبة ،أو في نطاق الهدنة المعقودة بينهم بطريقةٍ واقعية .
قيمة المرأة إسلامياً من خلال هذه الآيات:
يمكن أن نستوحي من هذه الآيات ما يمنحه الإسلام للمرأة من قيمةٍ كبيرٍة في الاستقلال العقيدي ،فليس لزوجها الحق في أن يفرض عليها عقيدته على أساس تبعيتها له ،بل هي إنسانٌ مستقلٌ يملك الفكر المستقل الذي يتحرك في نطاق العقيدة ،كما يملك الإرادة التي تؤكد الموقف والانتماء، كما يوحي إلينا ،من الناحية التاريخية ،إلى أيّ مدى كانت المرأة مستقلةً في مستوى الإيمان الكبير ،بحيث كانت تترك زوجها وأهلها وأولادها ،فراراً بدينها ،حتى لا تسقط تحت تأثير الضغوط القاسية التي يحاول الكافرون ممارستها ضدها ليفتنوها عن دينها ،فكانت تتحمل الصعوبات الشديدة والسفر المجهد الطويل ،حتى تصل إلى رسول الله( ص ) لتجد الحماية عنده ،كما تجد المناخ الذي تستطيع أن تتنفس فيه هواء الإسلام النقي .
وكان الوحي واضحاً في تأكيده على المؤمنين الذين يمثّلون المجتمع الإسلامي بأن يحققوا لهن الحماية إذا عرفوا صدق إيمانهن ،وثبات موقفهن .
وقد يكون في هذا بعض الإيحاء بحماية المرأة من كل ضغط يحاول استغلال ضعفها لإبعادها عن تفاصيل الالتزام الإسلامي ،في ما يعمل له الخطّ الكافر أو الخط المنحرف من فرض السفور والخلاعة والانحراف عليها ،أو من ممارسة القهر والعنف الجسدي والمعنوي ضدها لتترك الالتزامات العبادية والأخلاقية .
إن من الضروري على المجتمع المسلم دراسة الوسائل الكفيلة بمواجهة الضغوط الاجتماعية أو السياسية التي تبتعد بالمرأة المسلمة عن الانحراف ،عندما تلجأ إلى الجماعة المسلمة لحمايتها من ذلك ،لأن مسألة الحماية ،في حالة الهجرة من بلاد الكفّار إلى بلاد الإسلام ،لا تختص بهذا الجانب ،بل إنها تمثل النموذج في مسألة الانحراف الذي يمكن أن يمتدّ معناه إلى التفاصيل ،كما يتمثل في المبدأ .
امتحان المؤمنات المهاجرات:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا نداءٌ للمؤمنين ،باعتبارهم يمثلون القوة الضاغطة التي تملك أمر الحماية الواقعية بقيادة الرسول( ص ) ،ليواجهوا القوم الذين يأتون إلى المدينة للمطالبة بإرجاع هؤلاء النسوة إلى الكفار ،فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً .
{إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} معلناتٍ إيمانهن على خط الإسلام وفرارهن بدينهن من ضغط الكفار الذين يعملون لفتنتهن عن ذلك ،ولمنعهن عن ممارسة الالتزامات الدينية ،{فَامْتَحِنُوهُنَّ} لتتعرفوا طبيعة الموقف الحقيقي لهن ،إذا ما كان وليد بعض مشاكل شخصية في نطاق العلاقات الزوجية أو الأبوية ،أو نحو ذلك مما قد يستسلمن فيه لانحرافاتٍ أخلاقيةٍ يخشين من نتائجها ،أو لسرقةٍ ماليةٍ ،أو لأوضاع نفسيةٍ قلقةٍ ،أو أنه وليد التزام ديني عميق لم يكن يملكن الامتداد فيه ولا الثبات عليه هناك ،وكنّ يُستحلفن «ما خرجت من بغض ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا التماس دنيا وما خرجت إلا حباً لله ولرسوله » .
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فهو الذي يعرف عمق الفكرة الإيمانية لدى المؤمن ،فلا يحتاج إلى اختباره وامتحانه من أجل المعرفة ،بل إن المسألة هي إيكال أمر المعرفة إلى المجتمع المسلم ليحدد موقفه على ذلك الأساس ،في ما يريد أن يتحمله من المسؤولية .وهكذا نلاحظ أن الله لم يجر الحركة الإسلامية في موقف المجتمع المسلم من الأحداث الخفية على أساس الغيب ،في ما يوحي به إلى نبيّه ،بل ترك الأمر للوسائل المألوفة للمعرفة ،لأنه يريد من المسلمين أن يعيشوا التجربة الحية ،في ما يملكون من الوسائل العملية ،{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} في ما يظهر من الدراسة التفصيلية لأوضاعهن الواقعية ،ولأفكارهن الإيمانية ،ولاعترافاتهن الإسلامية ،ولإعلانهن الاستعداد للسير على خط الاستقامة في العقيدة والعمل{فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فقد قطع الله العلاقة الزوجية بينهن وبين الكافرين ،سواء كانت العلاقة الزوجية سابقةً على الإيمان أو كانت لاحقةً له ،في ما يريد الكافرون إجبارها عليها ،لأن الكافر لا يجوز له الزواج من المسلمة ،كما لا يجوز للمسلمة الزواج من الكافر أو المشرك ،{وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} من المال الذي دفعوه مهراً لهن ،وذلك من أجل الحفاظ على طبيعة المعاهدة المعقودة بين المسلمين والكافرين التي تعمل على الإبقاء على الجو السلمي فيما بينهم ،ما يجعل الامتناع عن إرجاع زوجات الكافرين المؤمنات ،خاضعاً للتعويض المالي على الأزواج ،مما يخفف من سلبياتها النفسية من خلال النظرة المادية التي تحكم الذهنية الموجودة في ذلك المجتمع في علاقة الرجل بالمرأة .{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لأنهن يملكن الارتباط بعلاقة زوجيةٍ جديدة بعد انفساخ الزواج السابق بالإسلام ،ضمن الشروط الشرعية المعتبرة ،ومن بينها المهر الذي يدفعه المسلمون لهن ضمن عقد الزواج .
{وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} بالاستمرار على زوجيتكم لهن ،إذا أسلمتم وبقين على الكفر ،أو إذا كفرن بعد الإسلام ،فإن الله لا يحل للمسلم الزواج من كافرةٍ بمعنى الإلحاد أو الشرك ،فإن الظاهر من السياق إرادة ذلك من هذه الفقرة في الآية ،فلا يشمل أهل الكتاب ،لأن القرآن لا يستعمل هذا المصطلح في الحديث عنهم ،مع ملاحظة أن إطلاق الكافرين عليهم ممكن من جهة الكفر برسالة الرسول ،وقد عبر عن ذلك في سورة البينة في قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [ البينة:1] ،ولكنه أطلق ذلك مع ذكر كلمة «أهل الكتاب » .
وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة عن أهل البيت( ع ) ما يوحي بشمولها لأهل الكتاب ،مما جعلها ناسخةً للآية الكريمة التي تبيح نكاح أهل الكتاب ،فقد جاء في الكافي بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر «محمد الباقر( ع ) » عن قول الله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} فقال: هذه منسوخة بقوله:{وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[ 4] .
ولكننا نلاحظ على هذا الحديث ما لاحظه العلماء ،بأن النسخ غير واردٍ ،لأن آية الممتحنة سابقة على آية المائدة نزولاً ،فكيف يمكن للسابق أن ينسخ اللاحق ،فلا بد من تأويل الحديث أو طرحه .
{وَاسْألُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ} إذا لحقت المرأة بالكفار ،{وَلْيَسْألُواْ مَآ أَنفَقُواْ} من مهر نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين .{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} على أساس التوازن في المعاملة المتبادلة بالمثل .{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فهو الذي يعلم صلاح عباده ، فيجري تشريعاته على أساس الحكمة في ما يأخذون به أو في ما يتركونه .