/م10
التّفسير:
تعويض خسائر المسلمين والكفّار:
استعرضت الآيات السابقة موضوع «البغض في الله » وما يترتّب على ذلك من قطع أي صلة مع أعداء الله ..أمّا موضوع هذه الآيات فهو عن «الحبّ في الله » وعن طبيعة العلاقة مع الذين انفصلوا عن الكفر وارتبطوا بالإيمان .
وينصبّ الحديث في الآية الأولىمن هذه الآيات المباركاتعن النساء المهاجرات ،حيث ضمّت هذه الآية سبع نقاط تتعلّق بالنساء المهاجرات ،كما تناولت نقاطاً أخرى تختّص بالنساء المشركات .
النقاط التي تختّص بالنساء المهاجرات هي:
1امتحان النساء المهاجرات ،حيث يوجّه سبحانه الحديث إلى المؤمنين فيقول تعالى: ( يا أيّها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنّ ) .فالأمر الأوّل هو امتحان النساء المؤمنات ،وبالرغم من تسميتهنّ بالمؤمنات إلاّ أنّ إعلان الشهادتين ظاهرياً لا يكفي ،فمن أجل المزيد من الاطمئنان على انسجام الظاهر مع الباطن كان الأمر بالامتحان للوثوق والتأكّد .
أمّا طريقة وأسلوب هذا الامتحان فكما مرّ بنا ،وهو أن يستحلفن أنّ هجرتهنّ لم تكن إلاّ من أجل الإسلام ،وأنّها لم تكن بسبب بغض أزواجهنّ أو علاقة مع شخص آخر ،أو حبّاً بأرض المدينة وما إلى ذلك .
كما يوجد احتمال آخر حول كيفية امتحان النسوة المهاجرات ،وذلك كما ورد في الآية الثانية عشرة من نفس السورة قال تعالى:{يا أيّها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف فبايعهنّ ...}{[5250]} .
ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضاً ،فيقول البعض خلافاً لما يعتقد به ،إلاّ أنّ التزام الكثير من الناس حتّى المشركين في ذلك الزمان بمسألة البيعة والحلف بالله كان سبباً في تقليص دائرة غير الصادقين .ومن هنا نلاحظ أنّ الامتحان المذكور بالرغم من أنّه لم يكن دليلا قطعيّاً على الإيمان حقيقة ،إلاّ أنّه غالباً ما يكون كاشفاً عن الحقيقة بصورة كبيرة .
لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية:{الله أعلم بإيمانهنّ} .
2يقول سبحانه في الأمر اللاحق:{فإن علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار} .
ورغم أنّ البند المثبت في ( وثيقة صلح الحديبية ) يشير إلى أنّ الأشخاص الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة يجب إرجاعهم إلى مكّة ،إلاّ أنّه خاصّ بالرجال ولا يشمل النساء ،لذا فإنّ رسول الله لم يرجع أيّة امرأة إلى الكفّار .وإلاّ فرجوع المسلمة إلى الكفّار يمثّل خطراً حقيقيّاً على وضعها الإيماني ،وذلك بلحاظ ضعفها وحاجتها إلى الرعاية المستمرّة .
3في ثالث نقطة التي هي في الحقيقة دليل على الحكم السابق يضيف تعالى:{لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلّون لهنّج .
فالإيمان والكفر لا يجتمعان في مكان واحد ،لأنّ عقد الزواج المقدّس لا يمكن أن يربط بين محورين وخطّين متضادّين ( خطّ الإيمان ) من جهة و ( الكفر ) من جهة أخرى ،إذ لابدّ أن يكون عقد الزواج يشكّل نوعاً من الوحدة والتجانس والانسجام بين الزوجين ،وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق نتيجة الاختلاف والتضادّ التي سيكون عليها الزوجان في حالة كون أحدهما مؤمناً والآخر كافراً .
ونلاحظ في بداية صدر الإسلام حالات من هذا القبيل لزوجين أحدهما مؤمن والآخر كافر ،ولم ينه عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث لم يزل المجتمع الإسلامي قلقاً وغير مستقرّ بعد ،إلاّ أنّه عندما تأصّلت جذور العقيدة الإسلامية وترسّخت مبادئها ،أعطى أمراً بالانفصال التامّ بين الزوجين بلحاظ معتقدهما ،وخاصّة بعد صلح الحديبية ،والآيةمورد البحثهي إحدى أدلّة هذا الموضوع .
4كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفاً ،ولهذا المعنى أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع:{وآتوهم ما أنفقوا} .
بالرغم من أنّ أزواج المؤمنات كفّار فلابدّ من إعطائهم ما أنفقوا من مهور على زوجاتهم ،وذلك لأنّ الطلاق والانفصال قد تمّ بمبادرة من المرأة بسبب إيمانها ،لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج .
ويتساءل هنا: هل المقصود من الإنفاق هو المهر فقط ،أو أنّه يشمل كافّة المصاريف التي بذلها الرجل لهذا الشأن ؟ ،رجّح أغلب المفسّرين المعنى الأوّل ،وهذا هو القدر المسلّم به ،بالرغم من أنّ البعضكأبي الفتوح الرازييرى وجوب تحمّل كافّة النفقات الأخرى أيضاً{[5251]} .وطبيعي أنّ دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفّار مع المسلمين ،كما في صلح الحديبية .
وأمّا من الذي يدفع المهر ؟فالظاهر أنّ هذا العمل يجب أن تتبّناه الدولة الإسلامية ( بيت المال ) لأنّ جميع الأمور التي لم يكن لها مسؤول خاصّ في المجتمع الإسلامي يجب أن تتصدّى الدولة لإدارتها ،وخطاب الجمع في الآية مورد البحث دليل على هذا المعنى .( كما يلاحظ في آيات حدّ السارق والزاني ) .
5الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه ،فهو قوله تعالى: ( فلا جناح عليكم أن تنكحوهنّ إذا آتيتموهنّ أجورهن ) .
وهنا تؤكّد الآية الكريمة على ضرورة إعطاء النساء المهاجرات مهورهنّ في حالة الرغبة بالزواج منهنّ ،شاجبة التصوّر الذي يدور في خلد البعض بأنّ النساء المهاجرات لا يستحققن مهوراً جديدة بسبب استلامهن المهور من أزواجهنّ السابقين ،وقد تحمّل بيت المال مبالغها ودفعها لأزواجهنّ السابقين .
إنّ زواجكم من هؤلاء النسوة لا يمكن أن يكون مجانيّاً ،ولابدّ أن يؤخذ بنظر الاعتبار مهر يتناسب مع حرمة المرأة المؤمنة .ومن الضروري ملاحظة أنّ انفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا يحتاج إلى طلاق ،إلاّ أنّه لابدّ من انتهاء العدّة .وقد ذكر الفقيه «صاحب الجواهر » في شرحه لكلام «المحقّق الحلّي » «وأمّا في الزوج والزوجة غير الكتابين ،فالحكم فيهما أن إسلام أحد الزوجين موجب لانفساخ العقد في الحال إن كان قبل الدخول وان كان بعده وقف على انقضاء العدّة بلا خلاف في شيء من ذلك ولا إشكال نصّاً وفتوى ،بل لعلّ الاتفاق نقلا وتحصيلا عليه »{[5252]} .
6أمّا إذا كان الأمر على العكس ،وكان الزوج قد آمن بالإسلام ،وبقيت المرأة كافرة ،فهنا تنفصل الرابطة الزوجية ،فتنقطع صلة زواجهما ،كما في قوله تعالى في تكملة الآية: ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) .
«عصم »: جمع عصمة ،وهي في الأصل بمعنى المنع ،وهنابمعنى النكاح والزوجيةلوجود القرائنوصرّح البعض بأنّه النكاح الدائموالتعبير بالعصمة أيضاً مناسب لهذا المعنى ،لأنّه يمنع المرأة من الزواج من أيّ شخص آخر إلى الأبد .
«الكوافر »: جمع كافرة ،بمعنى النساء الكافرات .
وقد بحث الفقهاء في أنّ هذا الحكم هل هو مختّص بالنساء المشركات فقط ،أم أنّه يشمل أهل الكتاب أيضاً كالنسوة المسيحيات واليهوديات ؟وتختلف الروايات في هذا المجال ،حيث يجدر متابعتها في كتب الفقه .إلاّ أنّ ظاهر الآية مطلق ويشمل جميع النساء الكافرات ،كما أنّ سبب النزول لم يحدّد ذلك .
أمّا مسألة «العدّة » فهي باقية بطريق أولى ،لأنّها إذا أنجبت طفلا فسيكون مسلماً لأنّ أباه مسلم .
7أمّا آخر حكم ذكر في الآية الكريمة ،فهو مهور النساء اللواتي ارتددن عن الإسلام والتحقنّ بالكفّار فانّ لكم الحقّ في المطالبة بمهورهنّ مثلما للكفّار الحقّ في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن بالمسلمين ،حيث يقول تعالى:{واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} وهذا ما توجبه العدالة والاحترام المتقابل للحقوق .
وفي نهاية الآيةوتأكيداً لما سبقيقول سبحانه:{ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} .
إنّ هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي ،الممتزجة بحكمته تعالى ،والتي لاحظت في تشريعاتها كافّة الحقوق ،تنسجم مع مبادئ العدل والمرتكزات والأصول الإسلامية ،ولابدّ من الالتفات إلى حقيقة أنّ كون جميع هذه الأحكام إلهيّة يُعدّ أكبر ضمانة إجرائية لها في قوّة التنفيذ .