/م10
واستعرضت ثاني وآخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدّم ،بعض الأمور في هذا الصدد يقول تعالى أنّه في كلّ مرّة ترتدّ امرأة متزوّجة عن الإسلام وتلتحق بالكفّار ،ثمّ حدثت معركة بينكم وبين الكفّار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم مغانم فأعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفّار:{وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} .
وتمشّياً مع النصّ القرآني فإنّ بإمكان المسلمين الذين فقدوا زوجاتهم اللواتي التحقن بمعسكر الكفر أن يأخذوا مهورهنّ من الكفّار ،كما كان يحقّ للكفّار استلام مهور زوجاتهم اللواتي اعتنقن الإسلام وهاجرن إلى المدينة .
وتحدّثنا بعض الروايات أنّه في الوقت الذي طبّق المسلمون هذا الحكم العادل ،فإنّ مشركي مكّة امتنعوا عن الالتزام به وتنفيذه ،لذا فقد أمر المسلمون بصيانة حقّ هولاء الأفراد وذلك بإعطائهم ما يعادل المهور التي دفعوها لزوجاتهم اللواتي التحقن بالمشركين من الغنائم التي حصلوا عليها قبل تقسيمها على الآخرين .
ويحتمل أن يكون هذا الحكم خاصّاً بالجماعات التي لم يكن لها عهد مع المسلمين ،حيث من الطبيعي أنّ مثل هؤلاء لم يكونوا مستعدّين لدفع مهور أمثال هؤلاء النسوة للمسلمين ،كما يمكن الجمع بين الرأيين أيضاً .
«عاقبتم » من مادّة معاقبة ،وهي في الأصل من عقب ( على وزن كدر ) بمعنى: ( كعب القدم ) ولهذا السبب فإنّ كلمة «عقبى » جاءت بمعنى الجزاء والعقوبة ،أي بمعنى عقاب لعمل فيه مخالفة .لذا فإنّ المعاقبة تستعمل بمعنى القصاص ،كما يستعمل هذا المصطلح أيضاً ( معاقبة ) بمعنى ( التناوب ) في أمر ما ،لكون الأشخاص الذين ينجزون عملا ما بشكل متناوب ،يعقب كلّ منهم الآخر .
ولذا فإنّ كلمة ( عاقبتم ) في الآية أعلاه جاءت بمعنى انتصار المسلمين على الكفّار وعقابهم ،وأخذ الغنائم منهم ،كما جاءت أيضاً بمعنى «التناوب » أي يوم ينتصر فيه الكفّار على المسلمين ويوم بالعكس .
ويحتمل أيضاً المقصود من هذه العبارة هو: الوصول إلى نهاية وعاقبة عمل ما ،والمراد من نهاية العمل هنا هو أخذ الغنائم الحربية .
وأي من هذه المعاني كان ،فإنّ النتيجة واحدة ،إلاّ أنّ طرق الوصول إلى هذه النتيجة متفاوتة .
وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الالتزام بالتقوى حيث يقول تعالى:{واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} .
والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقّة والعدل في تعيين مقدار مهر الزوجة ،باعتبار أنّ هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب ،ولا يوجد سبيل لإثبات هذا الحقّ إلاّ أقوال الزوجين ،ولاحتمال أن تسبّب الوساوس الشيطانية في الإدّعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر ،لذا يوصي بالتقوى .
وجاء في التواريخ والروايات أنّ هذا الحكم الإسلامي قد شمل ستّ نسوةفقطانفصلنّ عن أزواجهنّ المسلمين والتحقن بالكفّار ،وقد أعطىرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أزواجهنّ مهورهنّ من الغنائم الحربية .
العدل حتّى مع الأعداء:
من خلال استعراضنا الآيات الكريمة أعلاه نلاحظ عمق الدقّة وروعة الظرافة واللطف في طبيعة الأحكام التي وردت فيها ،موضّحة إلى أي حدٍّ يهتمّ الإسلام بأصل العدالة والقسط في تشريع أحكامه حتّى في أحرج الظروف وأصعبها ،لأنّه يسعى لتعميم الخير وإبعاد الأذى والضرر حتّى عن الكفّار .
في الوقت الذي نلاحظ أنّ العرف العامّ في حياتنا العملية يتعامل في الظروف والأوقات العصيبة بخصوصية معيّنة واستثناء خاصّ ويتخلّى عن الكثير من قيم الحقّ والعدل ويدّعي أن لا مكان لإحقاق الحقّ فيها ..في حين تؤكّد التشريعات الإلهية على تحمّل كلّ صعوبة حتّى في أدقّ الظروف وأشدّها ضيقاً منعاً لهدر أيّ حقّ ،لا للقريبين فقط .بل حتّى للأعداء ،إذ يجب أن يحافظ على حقوقهم وترعى حرماتهم .
إنّ مثل هذه الأحكام الإسلامية هي في الحقيقة نوع من الإعجاز ،ودليل على حقّانية دعوة الرّسول الأعظم حيث السعي بمنتهى الجهد لإقامة العدل حتّى في أسوأ حالات الانتهاك للحرمات الإسلامية في مجال النفس والمال كما كان عليه فعل المجتمع الجاهلي .