التّفسير:
شروط بيعة النساء:
استمرارا للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات ،تتحدّث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرّسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
لقد ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكّة عندما كانرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) على جبل ( الصفا ) يأخذ البيعة من الرجال ،وكانت نساء مكّة قد أتين إلى رسول الله من أجل البيعة فنزلت الآية أعلاه ،وبيّنت كيفية البيعة معهنّ ،ويختّص خطاب الآية برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث يقول تعالى: ( يا أيّها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله ...إلى قوله: ...إنّ الله غفور رحيم ) .
وبعد هذه الآية أخذ رسول الله البيعة من النساء المؤمنات .
وكتب البعض حول كيفية البيعة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر بإناء فيه ماء ،ووضع يده المباركة فيه ،ووضع النسوة أيديهنّ في الجهة الأخرى من الإناء .وقيل إنّ رسول الله بايع النساء من فوق الملابس .
وممّا يجدر ملاحظته أنّ الآية الكريمة ذكرت ستّة شروط في بيعة النساء ،يجب مراعاتها وقبولها جميعاً عند البيعة وهي:
1ترك كلّ شرك وعبادة للأوثان ،وهذا شرط أساسي في الإسلام والإيمان .
2اجتناب السرقة ،ويحتمل أن يكون المقصود بذلك هو سرقة أموال الزوج ،لأنّ الوضع المالي السيئ آنذاك ،وقسوة الرجل على المرأة ،وانخفاض مستوى الوعي كان سبباً في سرقة النساء لأموال أزواجهنّ ،واحتمال إعطاء هذه الأموال للمتعلّقين بهنّ .
وما قصّة ( هند ) في بيعتها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ شاهد على هذا المعنى ،ولكن على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية واسع .
3ترك التلوّث بالزنا ،إذ المعروف تأريخياً أنّ الانحراف عن جادّة العفّة كان كثيراً في عصر الجاهلية .
4عدم قتل الأولاد ،وكان القتل يقع بطريقتين ،إذ يكون بإسقاط الجنين تارةً ،وبصورة الوأد تارةً أخرى ( وهي عملية دفن البنات والأولاد أحياء ) .
5اجتناب البهتان والافتراء ،وقد فسّر البعض ذلك بأنّ نساء الجاهلية كنّ يأخذن الأطفال المشكوكين من المعابر والطرق ويدّعين أنّ هذا الطفل من أزواجهنّ ( وهذا الأمر محتمل في حالة الغياب الطويل للزوج ) .
وقد اعتبر البعض ذلك إشارة إلى عمل قبيح هو من بقايا عصر الجاهلية ،حيث كانت المرأة تتزوّج من رجال عدّة ،وعندما يولد لها طفل تنسبه إلى أيّ كان منهم ،إذا ضمنت رغبته بالطفل .
ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ مسألة الزنا قد ذكرت سابقاً ،ولم يكن استمرار مثل هذا الأمر في الإسلام ممكناً ،لذا فإنّ هذا التّفسير مستبعد ،والتّفسير الأوّل أنسب بالرغم من سعة مفهوم الآية الشريفة الذي يشمل كلّ افتراء وبهتان .
كما أنّ التعبير ب ( بين أيديهنّ وأرجلهنّ ) يمكن أن يكون إشارة إلى أطفال أبناء السبيل ،حيث تكون وضعية الطفل الرضيع عند رضاعته في حضن أمه بين يديها ورجليها .
6الطاعة لأوامر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي تبني الشخصية المسلمة وتهذّبها وتربّيها على الحقّ والخير والهدى ،وهذا الحكم واسع أيضاً يشمل جميع أوامر الرّسول ،بالرغم من أنّ البعض اعتبره إشارة إلى قسم من أعمال النساء في عصر الجاهلية كالنوح بصوت عال على الموتى ،وتمزيق الجيوب وخمش الخدود وما شابه ،إلاّ أنّ مفهوم الطاعة لا ينحصر بذلك .
ويمكن أن يطرح هنا هذا السؤال وهو: لماذا كانت البيعة مع النساء مشروطة بهذه الشروط ،في حين أنّ بيعة الرجال لم تكن مشروطة إلاّ بالإيمان والجهاد ؟وللإجابة على ذلك نقول: إنّ الأمور الأساسية المتعلّقة بالرجال في ذلك المحيط هو الإيمان والجهاد ،ولأنّ الجهاد لم يكن مشروعاً بالنسبة للنساء لذا ذكرت شروط أخرى أهمّها ما أكّدت عليه الآية الشريفة والتي تؤكّد على صيانة المرأة من الانحراف في ذلك المجتمع .
بحوث:
1ارتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهنّ الإسلامية
لقد ذكرنا في تفسير سورة الفتحفي نهاية الآية ( 18 )بحثاً مفصّلا حول
البيعة وشروطها وخصوصياتها في الإسلام ،لذا لا ضرورة لتكرار ذلك{[5253]} .
وممّا يجدر التذكير به هنا أنّ مسألة بيعة النساء للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت بشروط بنّاءة ومربّية كما نصّت عليها الآية أعلاه .
إنّ هذه النقطة على خلاف ما يقوله الجهلة والمغرضون في أنّ الإسلام حرم المرأة من الاحترام والقيمة والمكانة التي تستحقّها ،فإنّ هذه الآية أكّدت على الاهتمام بالمرأة في أهمّ المسائل ومن ضمنها موضوع البيعة سواء كانت في الحديبية في العام السادس للهجرة أو في فتح مكّة ،وبذلك دخلن العهد الإلهي مع الرجال وتقبّلن شروطاً إضافية تعبّر عن الهوية الإنسانية للمرأة الملتزمة تنقذها من شرور الجاهلية ،سواء القديمة منها أو الجديدة ،حيث تتعامل معها كمتاع بخس رخيص ،ووسيلة لإشباع شهوة الرجال ليس إلاّ .
2قصّة بيعة ( هند ) زوجة أبي سفيان
عندما منّ الله على المسلمين بفتح مكّة ،وجاءت النساء لبيعة الرّسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكانت «هند » زوجة أبي سفيان من ضمن النساء اللواتي جئن لبيعة الرّسول أيضاً .هذه المرأة التي ينقل عنها التاريخ قصصاً مثيرة في ممارساتها الإجرامية ،وما قصّة فعلها بحمزة سيّد الشهداء في غزوة اُحد ،ذلك العمل الإجرامي القبيح ،إلاّ مفردة واحدة من الصور السوداء لهذه المرأة المشينة .
وبالرغم من أنّ الظروف قد اضطرتها إلى الانحناء أمام عظمة الإسلام فأعلنت إسلامها ظاهرياً ،إلاّ أنّ قصّة بيعتها تعكس أنّها في الواقع كانت وفّية لما ارتبطت به من عقائد جاهلية سابقة ،لذا فليس عجباً ما ارتكبه آل أمية وأبناؤهم بحقّ آل الرّسول ،بصورة لم يكن لها مثيل .
وعلى كلّ حال ،فقد كتب المفسّرون في قصّة بيعة هند:
«روي أنّ النبي بايعهنّ وكان على الصفا ،وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة خوفاً من أن يعرفها رسول الله ،فقال أُبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً ،فقالت هند: انّك لتأخذ علينا أمراً ما أخذته على الرجال .
وذلك انّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ،فقال رسول الله: ولا تسرقن .فقالت هند: إنّ أبا سفيان ممسك وانّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أمّ لا ؟فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ..فضحك رسول الله وعرفها فقال لها: وانّك هند بنت عتبة ،فقالت: نعم فاعف عمّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك .فقال: ولا تزنين .فقالت هند: أو تزني الحرّة ،فتبسّم عمر بن الخطاب لما جرى بينه وبينها في الجاهلية ،فقال( صلى الله عليه وآله وسلم ): « ولا تقتلن أولادكن ،فقالت هند: ربّيناهم صغاراً وقتلوهم كباراً وأنتم وهم أعلم .وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوم بدر .وقال النبي: ولا تأتين ببهتان قالت هند: والله إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق ،ولمّا قال: ولا يعصينك في معروف قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء »{[5254]} .
3الطاعة بالمعروف:
إنّ من جملة النقاط الرائعة المستفادة من الآية أعلاه هو تقييد طاعة الرّسول بالمعروف ،مع أنّ الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معصوم ،ولا يأمر بالمنكر أبداً ،وهذا التعبير الرائع يدلّل على أمر في غاية السمو ،وهو أنّ الأوامر التي تصدر من القادة الإسلاميينمع كونهم يمثّلون القدوة والنموذجلن تكون قابلة للتنفيذ ومحترمة إلاّ إذا كانت منسجمة مع التعاليم القرآنية وأصول الشريعة وعندئذ تكون مصداقاً ( لا يعصينك في معروف ) .
وكم هي الفاصلة بعيدة بين الأشخاص الذين يعتبرون أوامر القادة واجبة الطاعة ،مهما كانت ومن أي شخص صدرت ،ممّا لا ينسجم مع العقل ولا مع حكم الشرع والقرآن ،وبين التأكيد على إطاعة المعصوم وعدم المعصية في معروف ؟! .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رسالته المشهورة التي أرسلها لأهل مصر حول ولاية مالك الأشتر ،ومع كلّ تلك الصفات المتميّزة فيه: «فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ فإنّه سيف من سيوف الله »{[5255]} .