{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ووقفوا ضد حريتكم في الدعوة ،وضد حرية الناس في الإيمان ،وقاتلوكم على أساس موقفكم الديني في العقيدة والعمل{وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} وعاونوا المشركين على إخراجكم من دياركم إما بطريق التحالف ،أو نحوه ،{أَن تَوَلَّوْهُمْ} في المودة القلبية ،والانفتاح العملي ،لأنهم يرفضون ذلك بعدوانيتهم ،وينفذون إلى مجتمعكم من موقع الثغرات العاطفية التي تفتحونها عليهم ،ليدمروا قواعد الأمان في حركتكم الإسلامية ،{وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} وينحرف عن هذا الخط المتوازن في حركة الوعي الإسلامي ،ويبتعد عن أوامر الله ونواهيه{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام والمسلمين في ذلك كله .
كيف نستوحي الآيتين ؟ .
وقد نستطيع استيحاء هاتين الآيتين في الانفتاح على غير المسلمين بطريقةٍ إيجابيةٍ على مستوى العلاقات الدولية ،أو على صعيد العلاقات الحركية السياسية ،أو في دائرة الأوضاع الاقتصادية ،فإن الله لا ينهى عن البر بهم ،والعدل معهم ،وليست المسألة في إيحاءاتها الفكرية ،مجرد حالةٍ إنسانيةٍ خيريةٍ ،بل هي إلى جانب ذلك حركة عملية في هذا الاتجاه ،لأن أجواء الآيتين ،مع ملاحظة الآيات السابقة ،تؤكد في مسألة المقاطعة ورفض الموالاة على الحالة العدوانية لا على الخلاف الديني ،ما يفسح المجال لعلاقاتٍ إنسانيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ إيجابيةٍ ،فإن كلمة «البر » قد تتسع للكثير من النشاطات العامة ،كما أن كلمة «العدل » قد تتحدث عن التوازن في المواقف والعلاقات .
وإننا نؤكد دائماً على ضرورة التركيز على الاستيحاءات القرآنية في مسألة المفاهيم ،من خلال طبيعة الآفاق التي تطلّ عليها الآية ،والأفكار العامة التي تثيرها ،والإشارات الروحية التي تلتقي بها في حركة المفاهيم ،وندعو إلى إثارة البحوث الإسلامية حول ذلك كله .
وقد أثار الفقهاء أحاديث متنوعة في ما يتصل بالآية الأولى ،حيث تحدثوا عن أن الصدقة تجوز من المسلم على الذمي من أهل الكتاب ،بل قال أبو حنيفة إنه تجوز عليه زكاة الفطرة والكفارات ،واتفقوا على جواز الوصية له بالمال ،والوقف عليه ،لأن الله تعالى لم ينهنا عن البر به ،وهذه الأمور هي من بعض مفردات البر،وقد نستطيع أن نضيف إلى ذلك الكافر المسالم ،حتى لو لم يكن من أهل الكتاب ،لا سيما إذا لاحظنا أن من الممكن أن تكون الآية شاملةً ،إنْ لم تكن مختصةً بحسب مورد النزول ،لأهل مكة المشركين الذين لم يشاركوا الطغاة في القتال أو في المساعدة على إخراج المسلمين ،ولا بد من التأمل في ذلك .
وإذا كنا قد تحدثنا عن مسألة الانفتاح على غير المسلمين المسالمين في العلاقات الدولية أو الحركية السياسية ،فإننا قد نستطيع الإشارة إلى دراسة العلاقات مع الدول الكبرى أو الصغرى التي تتحرك ضد المسلمين بطريقةٍ عدوانيةٍ ضد مصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية ،لأن القضية ليست قضية القتال في الدين والمساعدة على التشريد ،كخصوصيتين ذاتيتين ،بل كنموذجين للعداوة التي تمثل المبدأ الذي يدور مداره الموقف الودي أو الموقف المضاد .
المسألة الفقهية بين العناوين الأولية والثانوية:
وقد يفرض علينا البحث أن نشير إلى أن هذه المسألة في المقاطعة للفئات العدوانية ،تتحرك في نطاق العناوين الأولية في الحالة الطبيعية للعلاقات العامة ،ولكن قد تطرأ بعض الظروف الضاغطة التي قد يضطر فيها المسلمون إلى إيجاد علاقاتٍ معينة مع الدول المعادية ،من أجل المصلحة الإسلامية العليا التي قد تنعكس عليها المقاطعة انعكاساً سلبياً أكثر مما تنعكس على تلك الدول ،الأمر الذي قد يفرض على أولي الأمر أن يواجهوا المسألة بالطريقة الإيجابية مع بعض التحفظات التي تقتضيها السلامة العامة للإسلام والمسلمين .