لقد كانت القضية المطروحة في الحديث عن الموالاة للكافرين مشروطةً بالعداوة في الشعور والممارسة ،لأن الله لا يريد من المؤمن أن يكون ساذجاً في نظرته إلى علاقاته بالآخرين ،بحيث تتحوّل طيبته الذاتية إلى نوعٍ من أنواع السذاجة العقلية والعملية التي تثير في أعدائه غريزة العدوان عليه من مواقع غفلته ،ولأن الله يريد للمؤمن أن ينظر إلى الخلاف العقيدي نظرةً جديةً عندما يتحول في مواقف الفئات المضادة إلى وضعٍ عدواني ،فيتعامل مع هذا الوضع بواقعيةٍ .أما في هاتين الآيتين ،فينطلق التأكيد من القاعدة الإيمانية الإنسانية التي تفتح المجال واسعاً للعلاقات الإيجابية مع الذين نختلف معهم في الرأي إذا لم يتحركوا ضدنا بطريقةٍ عدوانيةٍ ،لتبقى الحالات العدوانية هي الملحوظة في المنع من الموالاة .
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين:
{لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ،بل كانوا مسالمين في مسألة الخلاف في العقيدة ،فهم لا يتفقون مع المسلمين في الرأي ،ولكنهم لا يدخلون معهم في حرب ،إمّا لدخولهم مع المسلمين في ميثاقٍ أو عهد أو أمان ،وإمّا لوجود وضع سلميٍّ واقعيٍّ رافضٍ للدخول معهم في قتالٍ أو صدام ،{وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} لأنهم يؤمنون بالتعايش مع الإسلام والمسلمين في محيطٍ واحدٍ ،فلا تغريهم قوتهم بأن يشردوهم ويهددوا أمنهم في ذلك ،{أَن تَبَرُّوهُمْ} بأن تقدموا إليهم الخير بكل مجالاته العملية على مستوى القضايا المادية والمعنوية ،{وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} بأن تتعاملوا معهم في خط العدل في ما يثور في حركة الواقع من خلافاتٍ ونزاعاتٍ فيما بينهم وبين المسلمين ،حتى يكون الخير العملي والعدل الإسلامي ،وسيلتين من وسائل الدعوة إلى الإسلام ،لما يجسدان من صورةٍ مشرقةٍ للإسلام لدى غير المسلمين ،فتتحول الحالة السلمية في حياتهم إلى حالةٍ روحيةٍ منفتحةٍ على الإسلام من خلال انفتاح المسلمين عليهم بالأخلاق الكريمة ،ليقودهم ذلك إلى الإيمان بالإسلام ،في نهاية المطاف ،على أساس أنهم لا يعيشون العُقدة العدوانية ضده .وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يواجهوه في سلوكهم العملي في ساحة الشعوب الكافرة المسالمة التي لا تعيش العقدة المستحكمة في نظرتها إلى الإسلام والمسلمين ،من أجل أن يكون المسلمون حركةً منفتحةً على الواقع بشكلٍ إيجابي فاعلٍ ،{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الذين يعيشون العدل كحالةٍ روحية ،مع كل الناس من مؤمنين وكافرين ،لأن العدل هو الأساس الذي يرتكز عليه بناء الحياة على أساس التوازن في حركة الإنسان والحياة .