{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} جاء في أسباب النزول في ما رواه في عوالي اللئالي عن مقاتل بن سليمان قال: بينا رسول الله( ص ) يخطب يوم الجمعة ،إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارةٍ ،وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلا أتته ،وكان يقدم ،إذا قدم ،بكل ما يحتاج إليه الناس من دقيقٍ وبرٍ وغيره ،ثم ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج الناس فيبتاعون منه .
فقدم ذات جمعةٍ ،وكان قبل أن يسلم ،ورسول الله( ص ) يخطب على المنبر ، فخرج الناس فلم يبق في المسجد الا اثنا عشر ،فقال النبي( ص ): لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء ،وأنزل الله الآية في سورة الجمعة
كيف نستوحي هذه الآية ؟
وقد يكون وحي هذه الآية ،في ما يريد أن نستوحيه ،أن الله سبحانه يريد أن يتحدث إلينا دائماً عن نقاط الضعف في الواقع الإسلامي الديني للجيل المسلم الأول من الصحابة ،ليؤكد لنا أن وجود نقاط الضعف في كل جيلٍ مسلمٍ لا يلغي إسلاميته ،ولا يخفف من مسؤولية القيادة على التعامل معه ،والالتفات إلى نقاط القوة الأخرى الموجودة في داخله لدى الأفراد الآخرين ،أو لدى الأفراد أنفسهم الذين يعيش الضعف في داخلهم .ثم تنطلق القيادة لتوجه وترشد وتقود من خلال كلام الله ،ومن خلال القدوة ،أو من خلال الترغيب والترهيب .
وقد يكون من الملفت للنظر أن يكون المسلمون في مسجد رسول الله( ص ) وهو يخطب فيهم في صلاة الجمعة ،ليوجّههم نحو مواقع الفلاح والسمو في الدنيا والآخرة ،ويدق الطبل التجاري أو الطبل اللهوي ،فينفضون عنه ،ليبقى النبي وحده أو مع جماعةٍ قليلة .ولكن المسألة هي أن الناس هم الناس في كل زمانٍ ومكان ،وأن على العاملين في خط الدعوة والجهاد في سبيل الله أن يدرسوا الإنسان في طبيعته ،في نقاط ضعفه وقوته ،فلا يصيبهم الإحباط إذا واجهوا بعض الانحرافات الطارئة أو القوية لدى المؤمنين أو المجاهدين ،ولا يسيطر عليهم اليأس ،بل يواجهون الموضوع في مؤثراته الواقعية الإنسانية ،وذلك من خلال أن الأديان والمبادىء لا تتحرك على أساس التنفيذ الشامل ،بل على أساس التنفيذ المتحرك الذي قد يتجمد في بعض الحالات ،وقد ينطلق في حالات أخرى ،بشكلٍ سريعٍ تارةً وبطيءٍ أخرى ،لأن الإنسان لا يمكن أن يكون خاضعاً لحالةٍ ثابتةٍ دائمةٍ مع اختلاف الظروف والأوضاع والمؤثرات الداخلية من حوله ،مع طبيعة الغفلة أو التذكر اللذين يتواردان عليه في مسألة الإيمان ،فيتركان تأثيرهما عليه تبعاً للنتائج المترتبة على هذا أو ذاك ،ما يفرض التعامل مع حركة الإسلام في الإنسان بمنطق الواقع الذي يدفع بالكلمة الهادئة تارة ،والقوية أخرى ،والمضمون الفكري في حالةٍ والمضمون العاطفي الشعوري في حالةٍ أخرى .وهذا ما واجه به القرآن هؤلاء الذين تركوا الرسول( ص ) في خطبته وصلاته ،واندفعوا إلى اللهو والتجارة ،فاكتفى بتسجيل الانحراف العملي عليهم ،ثم بادرهم بالكلمة الوعظية الموجهة التي تدعو إلى التفكير الهادىء والتأمل العميق في ما هي النتائج النهائية على مستوى المصير .
ما عند الله خير من اللهو والتجارة
{قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} فإن اللهو لا يلبث أن يفقد أثره في النفس وفي الواقع في لحظات أو في ساعات ،أمّا التجارة فإنها قد تحقق بعض الربح ،ولكنها قد لا تحقق شيئاً في ظروف معينة ،لأن مجرد المبادرة إلى مواضعها ليس كل شيء في ما هي النتيجة الحاسمة للربح ،بل قد تكون هناك مؤثراتٌ أخرى ليست بيد الإنسان مما يتصل بظروف السوق والشخص الآخر والأجواء العامة ،مما يملك الله أمره في ما يملكه من قلوب الناس التي يحولها ويقلّبها كيف يشاء ،أو في ما يهيمن عليه من ظروف الواقع التي يبدلها كما يريد ،وذلك من خلال الخطة التي وضعها لتوزيع الرزق على عباده عبر الأسباب الاختيارية وغير الاختيارية ،الأمر الذي يفرض على المؤمن الاعتماد عليه وحده لا على الآخرين ممن يحتاجون إليه ويقفون ببابه .
{وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ} لأن كل الذين يعتبرهم الناس رازقين بالمباشرة ،هم المرزوقون الذين يستمدون رزقهم من الله الذي هو الرازق الحقيقي للكون كله ،وكل من عداه ،وما عداه ،فهو صدىً لإرادته .ولذلك فإن معنى التفضيل في كلمة «خير » لم يأت للمفاضلة في ما هو القاسم المشترك في الحقيقة ،ولكن في ما هو الظاهر في النظرة الساذجة للموضوع ،التي تكتفي بالسطح ،ولا تنفذ إلى العمق ،لأنه هو وحده عمق الوجود كله وسره ومعناه .