{فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأن تقوى الله هي الغاية التي ينبغي للإنسان أن يبلغها في حركة المسؤولية في حياته ،بحيث يشعر بالحضور الإلهي من جميع جوانبه ،في مواقع المراقبة والمحاسبة والمجاهدة ،فتستقيم بذلك خطواته في الطريق المستقيم .
وإذا كان الله قد أمر بالتقوى بقدر الاستطاعة ،فليس المقصود تحديد التقوى بهذا الحد ،بحيث لا تحسن التقوى في ما وراء الاستطاعة ،بل الظاهر أن المقصود بها هو بذل كل الجهد في ما تقوم به الطاقة الإنسانية في هذا السبيل ،في إيحاء خفي بأن عليه تنمية طاقته فيها كلما استطاع الاستزادة منها ،لأنّ التقوى تمثل القيمة العليا في ميزان القيمة عند الله .وبهذا لا يكون هناك أي تنافٍ بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [ آل عمران:102] التي قد يستوحي منها البعض لزوم أن تكون التقوى بالقدر الذي يستحقه الله في موقع ألوهيته وربوبيته ،مما يتجاوز حد الطاقة الإنسانية الطبيعية ،لأن الظاهر منها هو التأكيد على نوعية التقوى التي تمثل جانب العمق في الالتزام ،بحيث لا يكتفي الإنسان بالجانب السطحي الذي يرتبط بالصورة والشكل ،بل ينفذ إلى المضمون الروحي المنفتح على الله في مواقع عظمته في داخله ،بحيث يخشع قلبه أمام ذكره كما تخشع جوارحه .بينما تمثل هذه الآية استيعاب كل موارد الطاقة ،ما يجعل النظر فيها إلى الكم ،بينما تؤكد تلك الآية على النوع ،والله العالم .
{وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ} فالسمع يفيد هنا الاستجابة الروحية والقلبية لأوامر الله ونواهيه ،أي على الصعيد الداخلي ،والطاعة تشكل التعبير الحي للانقياد العملي ،في حين أن الإنفاق هنا يمثل بذل المال في سبيل الله .
وهذا هو المظهر الحي للتقوى .{خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} قال في الكشاف: «نصب بمحذوف تقديره: ائتوا خيراً لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها وأنفع » ،ويحتمل أن يكون «أنفقوا » متضمناً معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام .
وقد جاء هذا التأكيد للإيحاء بأن الجهد الذي تبذلونه في الالتزام القلبي والعملي ،والتضحية التي تقدمونها في بذل المال في سبيل الله ،لا يمثل شيئاً من الخسارة في ما يمكن أن توحي به إليكم وساوسكم الشيطانية ،لأن الثواب الذي تحصلون عليه من الله ،والسمو الروحي الذي ترتفعون إليه في ذلك ،يمثل الربح كل الربح ،والفوز العظيم .
البخل مانع من الخير
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ،الشح: البخل ،وهو الصفة الذميمة التي إذا عاشت في وجدان الإنسان منعته عن كل خيرٍ ،في ما يريد الله منه القيام به من بذل جهده في الطاعة ،وبذل ماله في الخير ،الأمر الذي يجعل التحرر منها بالسيطرة على نوازع الأنانية الذاتية التي تدفع إليها ،من أفضل أسباب السعي نحو الفلاح ،وذلك من خلال انفتاح الشخصية الإنسانية على مواطن الخير ،ومواقع التضحية بالمال والنفس في مواقع طاعة الله تعالى .