{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقدّرهما ليكونا القانون الطبيعيّ للموجودات الحيّة ،لا سيّما الإنسان الذي يمثل وجوده حركة المسؤولية في ذاته .والموت يحيط بالإنسان من جانبين ،فهناك الموت الذي يسبق الحياة ،وهناك الموت الذي يتعقبها ،وإذا كان الموت عدماً ،فكيف يتعلق به الخلق الذي لا بد من أن يكون متعلقه محلاًّ للوجود ،وقيل: «إن الموتعلى ما يظهر من تعاليم القرآنانتقالٌ من نشأةٍ من نشآت الحياة إلى نشأةٍ أخرى »[ 1] .ولكن الملحوظ أن النشأة الأخرى ليست دخيلةً في معنى الموت ،بل هي حياة تحدث بعده .وربما كان الوجه في هذا التعبير ،هو ملاحظة أسباب الموت المخلوقة في تكوين الذات الحيَّة التي تؤدي إليه ،حتى كأنّه في ما يمثله من سكون الجسد وجمود الحياة فيه ،شيءٌ عارضٌ عليه ،على نحو التخييل الإيحائي ...أمّا المعنى الحقيقي لخلق الموت ،فهو التقدير ،كما عبّر عن ذلك في قوله تعالى:{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [ الواقعة:60] .
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقد جعل الحياة ساحة ابتلاء واختبار ليتسابق الناس إلى التحرك في نطاق المسؤولية ،ليقوموا بما كلفهم الله من الأعمال التي تبني لهم حياتهم على هدى الله ،في دائرة أوامره ونواهيه ،لتظهر بذلك النتائج النهائية التي تحدد الإنسان الأفضل ،من خلال العمل الأحسن .وفي الآية إيحاءٌ داخليٌّ بأن على الناس أن تنطلق طموحاتهم العملية في حركة وجودهم المسؤول أمام الله ،ليكونوا أحسن عملاً ،لينالوا بذلك القرب من الله ،لأن أكرمهم عنده أتقاهم له ،في ما تمثله الأفضلية في التقوى من الأحسنيّة في العمل .
وقد جاء عن أبي قتادةحسب ما جاء في مجمع البيان«قال: سألت النبي( ص ) عن قوله تعالى:{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ما عنى به ؟فقال: يقول: أيُّكم أحسن عقلاً ،ثم قال: أتمّكُمْ عقلاً وأشدّكم لله خوفاً وأحسنكم في ما أمر الله به ونهى عنه نظراً ،وإن كان أقلكم تطوّعاً »[ 2] .
وجاء في الكافيبإسناده عن سفيان بن عيينةعن أبي عبد الله جعفر الصادق( ع ) في قول الله عز وجل:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال: ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً ،وإنما الإِصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة .
ثم قال: الإِبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل ،والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلا الله عز وجل ،والنية أفضل من العمل ،ألا وإن النية هي العمل ،ثم تلا قوله عز وجل:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [ الإسراء:84] يعني على نيته »[ 3] .
ونستوحي من ذلك أن العنصر الذي يمنح العمل قيمته ومعناه ،هو وعي العمل في العمق الفكري الذي يقود إليه ،وفي المعنى الروحي الذي يختزنه ويحتويه بما يتمثل في ذلك من سرّ الإِخلاص وحقيقة العبودية لله في شخصية العامل ،وفي النتائج المترتبة عليه في الدنيا والآخرة .ولهذا وردت الأحاديث التي فضَّلت الكمية الضئيلة في عبادة العالم الواعي لعبادته على الكمية الكثيرة في عبادة العابد الذي لا ينفتح على الآفاق الواسعة لعبادته ،كما وردت الأحاديث التي تؤكد على أن الله يثيب العامل من عباده على مقدار عقله ،الأمر الذي يجعلنا نرى أن العمل في الإسلام ينطلق في مستوى وعي العامل له ،وفي نطاق الدرجة التي يبلغها في امتداد المعاني الروحية في شخصيته ،ليتصاعد العمل في درجته من خلال نموّ الإنسان في وعيه وعقله وانفتاحه على أسرار العقيدة ،في حركة الإيمان والحياة .
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} لأنه الذي يملك الملك كله والقدرة كلها ،ولأنه الذي يعفو عن عباده في الدنيا والآخرة ،ويغفر سيئاتهم ؛وعليهم أن يراقبوه لموقع عزته ،وأن يطمعوا في عفوه لموقع مغفرته .