ثمّ يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته ،وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا ) .
«الموت »: حقيقته الانتقال من عالم إلى عالم آخر ،وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقاً ،لأنّ الخلقة ترتبط بالأمور الوجودية ،وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة ،أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقاً ،لذا فإنّه غير مقصود .
ثمّ إنّ ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الالتفات إلى الموت ،وما يترتّب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والالتزام ،إضافة إلى أنّ الموت كان في حقيقته قبل الحياة .
أمّا الهدف من الامتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقاً للقرب من الله سبحانه ،وقد بحثنا ذلك مفصّلا فيما سبق{[5355]} .
كما أنّ الجدير بالملاحظة في قوله «أحسن عملا » هو التأكيد على جانب ( حسن العمل ) ،ولم تؤكّد الآية على كثرته ،وهذا دليل على أنّ الإسلام يعير اهتماما ( للكيفية ) لا ( للكميّة ) ،فالمهمّ أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم ،ونافعاً للجميع حتّى ولو كان محدود الكمية .
لذا ورد في تفسير ( أحسن عملا ) ،روايات عدّة ،فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «أتمّكم عقلا ،أشدّكم لله خوفاً ،وأحسنكم فيما أمر الله به ،ونهى عنه نظراً ،وإن كان أقلّكم تطوّعاً »{[5356]} .
حيث أنّ العقل الكامل يطهّر العمل ،ويجعل النيّة أكثر خلوصاً لله عزّ وجلّ ويضاعف الأجر .
وجاء في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال حول تفسير ( أحسن عملا ): «ليس يعني أكثر عملا ،ولكن أصوبكم عملا ،وإنّا الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة .ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص ،أشدّ من العمل ،والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّ وجلّ »{[5357]} .
وتحدّثنا في تفسير الآية: ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ){[5358]} ،وقلنا: إنّ الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية لله عزّ وجلّ ،وهنا نجد الهدف: ( اختباره بحسن العمل ) .وممّا لا شكّ فيه أنّ مسألة الاختبار والامتحان لا تنفكّ عن مسألة العبودية لله سبحانه ،كما أنّ لكمال العقل والخوف من الله تعالى والنيّة الخالصة لوجهه الكريموالتي أشير لها في الروايات أعلاه ،أثراً في تكامل روح العبودية .
ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الامتحان الكبير لجميع البشر ،ووسيلة هذا الامتحان هو الموت والحياة ،والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة ،وإخلاص النيّة ،وإنجاز كلّ عمل خيّر .
وإذا لاحظنا أنّ بعض المفسّرين فسّر ( أحسن عملا ) بمعنى ذكر الموت أو التهيّؤ وما شابه ذلك ،فإنّ هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلّي .
وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الامتحان الكبير الذي يمرّ به ،فيجدر به ألاّ يكون متشائماً ويائساً من عون الله سبحانه ومغفرته له ،وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها ،حيث يقول تعالى: ( وهو العزيز الغفور ) .
نعم ،إنّه قادر على كلّ شيء ،وغفّار لكلّ من يتوب إليه .
وبعد استعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة ،تتناول الآية اللاحقة النظام الكلّي للعالم ،وتدعو الإنسان إلى التأمّل في عالم الوجود ،والتهيّؤ لمخاض الامتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم ،يقول تعالى: ( الذي خلق سبع سموات طباقاً ) .
/خ5