محمد رسول للعالمين
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ،فلست رسولاً محلياً أو قومياً ،بل أنا رسولٌ عالميّ يواجه مشاكل الناس كلّهم بالحلول الواقعية المرتكزة على أساس مصالحهم في دنياهم وآخرتهم ...وهذا النداء الصادر في مكةلأن الآية مكيةيؤكد عالمية الرسالة الإسلامية ،خلافاً لبعض آراء المستشرقين الذين يرون أن دعوة محمد( ص ) كانت محليةً في البداية ،قبل أن تنطلق خارج النطاق المحلي في المدينة .{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ} فإذا كانت له هذه السيطرة المطلقة على السموات والأرض والحياة والموت ،وإذا كان هو الإله الذي لا إله غيره ،لأن كل من عداه مخلوقٌ له ،فلا بد من أن يُخضع له في اتّباع رسوله في رسالته وإطاعة أمره ونهيه ،لأن ذلك هو مظهر الإقرار بوحدانيته والاعتراف بالعبودية له .وقد استوحى العلاّمة الطباطبائي في الميزان أنها «بمنزلة تعليلٍ يبين بها إمكان الرسالة من الله في نفسها أولاً ،وإمكان عمومها لجميع الناس ثانياً ،فيرتفع به استيحاش بني إسرائيل أن يرسل إليهم من غير شعبهم وخاصةً من الأميين ،وهم شعب الله ،ومن مزاعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل ،وهم خاصة الله وأبناؤه وأحباؤه .وبه يزول استبعاد غير العرب من جهة العصبية القومية أن يرسل إليهم رسولٌ عربيٌ .وذلك أن الله الذي اتخذه رسولاً هو الذي له ملك السماوات والأرض ،والسلطنة العامة عليها ،ولا إله غيره حتى يملك شيئاً منها ،فله أن يحكم بما يشاء من غير أن يمنع عن حكمه مانع يزاحمه ،أو تعوق إرادته إرادة غيره ،فله أن يتخذ رسولاً إلى عباده وأن يرسل رسوله إلى بعض عباده أو إلى جميعهم كيف شاء .وهو الذي له الإحياء والإماتة ،فله أن يحيي قوماً أو الناس جميعاً بحياة طيبة سعيدةٍ ،والسعادة والهدى من الحياة ،كما أن الشقاوة والضلالة موت ..» .
ولكننا نتحفّظ في استيحاء ذلك من هذه الفقرة ،لأن الظاهر منها ،بدليل الفقرات التالية ،أنها واردةٌ في مجال تأكيد القوة المطلقة والهيمنة الكلية لله ،كأساسٍ للدعوة إلى الإيمان به والاستجابة لرسوله ...
دعوة للإيمان بالله ورسوله
{فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} وهذا التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة ،فلم يقل آمنوا بي ،امتداداً لما سبق من كلامه ،لأنه يريد أن يؤكد لهم الصفة التي تفرض عليهم موقف الإيمان والالتزام ،ويوحي إليهم بأن الرسول الذي يدعوهم إلى الإيمان ،هو أوّل من يركّز عقيدته على هذا الأساس ،فهو{الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلماتِهِ} في كلّ ما أوحى به من كتبه ورسالاته ،كإنسان يعيش الفكرة ويدعو لها ،فهو يتحرك من موقع المعاناة الروحية التي انطلقت من الرسالة ،فتحولت إلى تجربةٍ حيةٍ رائدةٍ .وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في تأكيد إيمان الرسول بما يدعو إليه ،للإيحاء بأن صاحب الدعوة لا بد له من أن يؤمن بها ويلتزم قبل أن يدعو الآخرين إليها ،لا كمن يقود الناس نحو مسؤوليةٍ معينةٍ ثم يكون أوّل الهاربين منها .{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لأنه لن يقودكم إلا إلى الطريق المستقيم الذي يوصلكم إلى النهايات السعيدة المشرقة في أقرب وقت .وربما كان التعليل ب «لعلّ » التي لا تفيد معنى الحسم في النتائج ،للإيحاء بأن الاتّباع يحمل للنفس الحائرة روح الأمل والرجاء الكبير ،الذي يدفع الإنسان للامتداد في هذا الاتجاه كوسيلةٍ عمليّةٍ للوصول إلى الهدى الواضح المشرق في نهاية المطاف .