{إِصْرَهُمْ}: الإصر: الثقل الذي يمنع حامله من الحركة .
{وَالأغلالَ}:القيود .وتوضع في يدي الأسير أو عنقه .
{وَعَزَّرُوهُ}: قال الزجّاج: اختلف أهل اللغة في معنى قوله:{وَعَزَّرُوهُ} ،وفي قولهم: عزرت فلاناً أعزره عزراً ،فقيل: معناه رددته ،وقيل معناه: أعنته ،وقيل معناه: لمته ،ويُقال: عزّرته بالتشديد: نصرته[ 1] .وقيل: التعزير هو الإعانة والتوقير .
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} فينفتحون على ما تُقدّمه إليهم التوراة والإنجيل من دلائل وبراهين على صدق نبوّته ورسالته ،فيؤمنون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله ...{يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الأمر الذي يحقّق الانضباط لحركة المجتمع في علاقاته ومعاملاته وتصرفاته العامة ،بحيث يكون الطابع العام للمجتمع هو الرقابة على بعضه البعض في تأكيد الخطّ المستقيم في جميع الاتجاهات ،وذلك بطريقةٍ عفويةٍ إيمانيةٍ ،لا تكلّف فيها ولا ارتباك .{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} في ما يريد تحقيقه للإنسان في حياته من الاستمتاع بطيباتها في ما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه ويتلذّذون به ،ومن الابتعاد عن خبائثها التي تسيء إلى أجسادهم وأذواقهم وأرواحهم ،لأنّ الله لم يمنح الإنسان الحرية في الإساءة إلى نفسه ،ولذلك حرّم عليه ما يؤدي إلى ذلك .{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرهُمْ} الذي يثقل عليهم في حياتهم وأوضاعهم من تشريعاتٍ سابقةٍ أو لاحقةٍ ،{وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} في ما كان يقيّدهم به في شرائعهم من الأشياء الشاقة .ويمثلون لذلك باشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم ،وقطع الأعضاء الخاطئة ،وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ،وغير ذلك من الأمور التي قيل إنها كانت من التشريعات الصعبة في التوراة ...
الخطوط العامة التي تميز الشريعة الإسلامية
وهذه الخطوط العامة هي ما يميّز الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد( ص ) ،وهي تتحرك في حياة الناس في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى ؛هي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .فليس هناك عمل يأمر به الإسلام ،إلا وهو خاضعٌ لعنوان المعروف ،ويعني ما يعرفه الناس في وجدانهم لانسجامه مع المبادىء الخيّرة والقيم الروحية ،وارتكازه على قاعدة المصلحة الإنسانية ،أو ما لو عرف الناس أساسه التشريعي لأصبح قريباً ممّا يعرفونه أو يألفونه في ما يرتبط بحياتهم المستقبلية ...وليس هناك عمل ينهى عنه الإسلام إلاّ وهو خاضعٌ لعنوان المنكر الذي هو ما ينكره الناس في فطرتهم الإنسانية لنتائجه السلبية على حياتهم ،ولارتكازه على قاعدة المفسدة والمضرة التي تسيء إلى حركة التوازن في الحياة .وربما كان لهاتين الكلمتين «المعروف » و «المنكر » بعض الإيحاء بأن التشريع ينسجم مع الخطّ الوجداني للفطرة الإنسانية السليمة التي لا تعرف ولا تألف إلاّ الخير ،ولا تنكر أو ترفض إلاّ الشرّ ،فإذا عرفت الشر ،وأنكرت الخير ،فإن ذلك يعني الانحراف عن الاستقامة في الفكر والوجدان والشعور .
النقطة الثانية ؛تحليل الطيّبات وتحريم الخبائث ،فليس في ما أحلّه الله إلا الطيّب الذي يرتاح إليه الذوق الإنساني ،في ما يتذوّقه الناس من الأشياء الطيّبة ،أو الذي يلتقي بالمنفعة لحياتهم في أرواحهم وأجسادهم ،وليس في ما حرّمه الله إلا الخبيث الذي تعافه النفس ،ويستقذره الذوق ،وترفضه الفطرة ...وإذا كان الناس يستطيبون بعض المحرّمات أو يعافون بعض المحللات ،فلأنهم كانوا لا ينظرون إلا إلى الجانب السطحي من تلك الأشياء ،ولا يتطلّعون إلى أعماقها ليكتشفوا الجانب الخبيث في عناصرها الذاتية التي يستطيبون ،وليعرفوا الجانب الطيب في أعماق الأشياء التي يعافونها ،لأنّ المقياس في ذلك كله هو في الخصائص الذاتية للأشياء وللأعمال وليس في الجوانب الظاهرية منها .
النقطة الثالثة ؛الإصر وهو الثقل والأغلال ،فليس في الإسلام حكم يثقل على الإنسان القيام به ،إلا بما يفرضه التكليف في ذاته من ثقلٍ طبيعيٍّ يمارسه الإنسان بطريقةٍ عاديّة ...وقد رفع القيود التي فرضتها بعض الظروف والأوضاع السلبية لدى الشعوب الماضية ،مما اقتضى الشدّة في التشريع والصرامة في التحريم .وبذلك كانت الشريعة الإسلامية شريعة التخفيف والتسهيل والتسامح في كل أحكامها المتعلّقة بالفرد أو بالمجتمع .
الإسلام يختزن في داخله آفاق حركة الحياة
وهكذا نجد أنّ الإسلام يختزن في داخله ،في ما يحمل من مفاهيم وما يخطط من وسائل وأهداف ،أو يشرّع من أحكام ،آفاق حركة الحياة ،على أساس تحقيق المعروف وإبعاد المنكر ،وتحليل الطيّب ،وتحريم الخبيث ،ورفع الأثقال ،وتحرير الإنسان ،ليكون الإسلام هو الدّين الذي يلتقي بالفطرة السليمة للإنسان ،وليتحقق له بذلك سلام الحياة في قضاياها الكبيرة والصغيرة ،لأن ذلك هو السبيل الذي أراد الله للسائرين فيه أن يحققوا من خلاله إنسانيتهم على أساسٍ من الشعور العميق بالحاجة إلى الحرية والوعي والإيمان ،ليصلوامن خلال ذلكإلى هدف الفلاح في الدنيا والآخرة .
المؤمنون هم المفلحون
{فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ} فأعانوه في تأدية رسالته ،وعرفوا عظمته فاحترموا مكانته ،{وَنَصَرُوهُ} في جميع معاركه ضد الكفر والشرك والضلال ،{وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} فانطلقوا مع القرآن في جميع مفاهيمه وتشريعاته التي تضيء للحياة طريق الفلاح والنجاح ،واتّبعوا ذلك كله ،وحوّلوه إلى برنامجٍ كاملٍ للفكر وللحياة ...{أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الذين أفلحوا في حياتهم الدنيا ،لأنهم أقاموها على قاعدةٍ ثابتةٍ من الإيمان والفكر والصلاح ،وأفلحوا في حياتهم الآخرى ،لأنهم انفتحوا عليها انفتاح المؤمن الذي يعي جيداً أن طريق الجنة يمر بالإيمان والتقوى والعمل الصالح ،لأن ذلك هو موضع رضى الله سبحانه في الحياة .
وقد نستوحي من هذه الآية أن الله سبحانه يريد لهؤلاء الذين عرفوا الكتاب الذي أنزله على رسله ،أن يتعرفوا صدق النبي محمد( ص ) من خلال دراسة رسالته في ما تأمر به وتنهى عنه ،وما تحلّه وتحرّمه ،وما تقدمه للناس من تشريعاتٍ تساعدهم في التخلص ّمن أثقال الحياة التي تقيّد حريتهم وإنسانيتهم ...وربّما يوحي ذلك بأن الرسالات تتشابه في خطوطها التشريعية في ما تتحرك به من مبادىء عامّةٍ ،فيمكن للإنسان أن يتعرف صدق أيّة دعوةٍ رساليّةٍ من خلال دراسة العناصر الحية البارزة التي تكمن في خط الرسالات ،من دون انتظارٍ لمعجزةٍ خارقةٍ أو نحو ذلك ،مما يدلّ على أن العقل الواعي هو الحجة القوية التي يرتكز عليها الإيمان .