التّفسير
اتبعوا هذا النّبي:
هذه الآية في الحقيقة تكمل الآية السابقة التي تحدثت عن صفات الذين تشملهم الرحمة الإِلهية الواسعة ،أي من تتوفر فيهم الصفات الثلاث: التقوى ،وأداء الزكاة ،والإِيمان بآيات الله .وفي هذه الآية يذكر صفات أُخرى لهم من باب التوضيح ،وهي اتّباع الرّسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لأنّ الإِيمان بالله غير قابل للفصل عن الإِيمان بالنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) واتباع دينه ،وهكذا التقوى والزكاة لا يتمان ولا يكملان من دون اتباع القيادة .
لهذا يقول تعالى: ( الذين يتّبعون الرسول ) .
ثمّ يبيّن ست صفات لهذا الرّسول مضافاً إلى مقام الرسالة:
1أنّه نبيّ الله ( النّبي ) .
والنّبي يطلق على كل من يبيّن رسالة الله إلى الناس ،ويوحى إليه وإن لم يكن مكلَّفاً بالدعوة والتبليغ ،ولكن الرّسول مضافاً إلى كونه نبيّاًمكلّف بالدعوة إلى دين الله ،وتبليغه والاستقامة في هذا السبيل .
وعلى هذا يَكون مقام الرسالة أعلى من مقام النّبوة ،وبناءً على هذا يكون معنى النّبوة مأخوذاً في مفهوم الرسالة أيضاً ،ولكن حيث أنّ الآية بصدد توضيح وتفصيل خصوصيات النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهذا ذكرهما على نحو الاستقلال ،وفي الحقيقة إنّ ما أُخذ في مفهوم الرّسول مجملا ،ذكر في الآية بصورة مستقلة من باب توضيح وتحليل صفاته .
2أنّه نبيّ أُمّي لم يتعلم القراءة والكتابة ،وقد نهض من بين جماهير الناس من أرض مكّة أم القرى قاعدة التوحيد الأصلية: ( الأُمي ) .
وحول مفهوم «الأميّ » المشتقة من مادة «أمّ » بمعنى الوالدة ،أو من «الأُمّة » بمعنى الجماعة ،دار كلام كثير بين المفسّرين ،فبعض فسّره بأنّه لم يتعلم ولم يدرس ،يعني أنّه باق على الحالة التي ولد بها من أُمّه أوّل يوم ،ولم يتتلمذ على أحد ،وبعض فسّره بمن نهض من بين جماهير الأُمّة ،لا من بين طبقة الأعيان والمترفين والجبارين ،وفسّرته جماعة ثالثة بأنّه ظهر من مكّة «أُم القرى » لأنّ هذه الكلمة مرادفة ل «المكي » .
والأحاديث الإِسلامية الواردة في مصادر مختلفة هي أيضاً تفسّر هذه الكلمة تارة بأنّه: لم يدرس وأُخرى: بأنّه مكّي{[1477]} .
ولكن لا مانع أبداً من أن تكون كلمة «الأُمّي » إشارة إلى كل المفاهيم والمعاني الثلاثة ،وقد قلنا مراراً: إنّه لا مانع من استعمال لفظة واحدة في عدة معان ،ولهذا الموضوع شواهد كثيرة في الأدب العربي .( وسنبحث بتفصيل حول أميّة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد الفراغ من تفسير هذه الآية ) .
3ثمّ إنّ هذا النّبي هو ( الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل ) .
وفي صعيد وجود البشارات المختلفة في كتب العهدين ( التوراة والإنجيل ) حتى التوراة والإِنجيل المحرفين الحاضرين أيضاً ،سيكون لنا بحث تفصيلي بعد الفراغ من تفسير هذه الآية .
4ومن سمات هذا النّبي أنّ دعوته تتطابق لنداء العقل مطابقة كاملة ،فهو يدعو إلى كل الخيرات وينهي عن كل الشرور والممنوعات العقلية: ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) .
5كما أنّ محتوى دعوته منسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة ،فهو يحل ما ترغب فيه الطباع السليمة ويحرم ما تنفر منه ( ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ) .
6أنّه ليس كأدعياء النّبوة والرسالة الذين يهدفون إلى توثيق الناس بأغلال الاستعمار والاستثمار والاستغلال ،بل هو على العكس من ذلك ،إنّه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي تكبّل عقولهم وأفكارهم وتثقل كاهلهم ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ){[1478]} .
وحيث أنّ هذه الصفات الست بالإضافة إلى الصفة السابعة وهي مقام الرسالة تشكّل من حيث المجموع علامة واضحة ودليل قاطع على صدق دعواه ،فيضيف القرآن الكريم: ( فالذين آمنوا به وعزروه ،ونصروه ،واتّبعوا النّور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون ) .
و «عزروه » المشتقّة من مادة «تعزير » تعني الحماية والنصرة المقترنة بالاحترام والتبجيل ،ويقول البعض إن هذه اللفظة تعنيفي الأصلالمنع ،فإذا كان المنع من العدوّ ،كان مفهومه النصرة ،وإذا كان المنع من الذنب كان مفهومه العقوبة والتنبيه ،ولهذا يقال للعقوبات الخفيفة «تعزير » .
والجدير بالانتباه استعمال كلمة ( أُنزل معه ) بدل «أُنزل إليه » في حين أننا نعلم أنّه لم يكن لشخص النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) نزول من السماء ،ولكن حيث أن النبوة والرسالة نزلا مع القرآن من جانب الله ،لهذا عبر ب «أنزل معه » .
بحوث
وهنا لا بد من الوقوف عند نقاط هامة هي:
1خمسة أدلة على النّبوة في آية واحدة
لم ترد في آية من آيات القرآن أدلة عديدة على حقانية دعوة الرّسول الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما جاء في هذه الآية ...فلو أننا أمعنا النظر بدقة في الصفات السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية لنبيه محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) لوجدنا أنّها تحتوي على سبعة أدلة واضحة لإِثبات نبوته:
الأوّل: أنّه «أمّي » لم يدرس ،ولكنّه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط ،بل كان نقطة تحول هام في التأريخ البشري ،حتى أنّ الذين لم يقبلوا بنبوته لم يشكوا في عظمة كتابه وتعاليمه .
فهل يتفق والحسابات الطبيعية أن يقوم بهذا العمل شخص نشأ في بيئة جاهلية ولم يتتلمذ على أحد ؟
الثّاني: أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علماً لدى المرء بحقانيته ....فإنّ البشارات التي جاءت في تلك الكتب لا تنطبق إلاّ عليه( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقط .
الثّالث: أن محتويات دعوته تنسجم انسجاماً كاملا مع العقل ،لأنّه يدعو إلى المعروف ،والنهي عن المنكر والقبائح ،وهذا الموضوع يتّضح بجلاء بمطالعة تعاليمه .
الرّابع: أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة .
الخامس: لو لم يكن من جانب الله لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصّة ،وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال والسلاسل عن الناس ،بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل ،في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة .
أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة .
أغلال الوثنية والخلافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد .
أغلال التمييز بكل أنواعه ،والحياة الطبقية بجميع أصنافها ،عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإِسلامية ،والمساواة أمام القانون .
وهكذا سائر الأغلال الأُخرى .
إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته ،كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى .
2كيف كان النّبي أُميّاً ؟
هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم «الأُمّي » كما قلنا سابقاً:
أوّلها: أن معناه: الذي لم يدرس .
الثّاني: أنّ معناه: المولود في أرض مكّة ،والناهض منها .
الثّالث: أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير .
ولكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل ،وهو أكثر انسجاماً مع موارد استعمال هذه اللفظة ،ويمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضاً ،كما قلنا .
ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يدرس ،ولم يكتب شيئاً ،وقد قال القرآن الكريمأيضاًفي الآية ( 48 ) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة: ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) .
وأساساً كان عدد العارفين بالكتابة والقراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّاً ،حيث كان الجهل هو الحالة السائدة على الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة والقراءة كانوا معروفين بأعيانهم وأشخاصهم ،فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز ( 17 ) شخصاً ،ومن النساء امرأة واحدة{[1479]} .
من المسلّم أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لو كان قد تعلّم القراءة والكتابةفي مثل هذه البيئةلدى أستاذ لشاع ذلك وصار أمراً معروفاً للجميع ،وعلى فرض أنّنا لم نقبل بنبوته ،ولكن كيف يمكنه( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن ينفيفي كتابهبصراحة هذا الموضوع ؟ألا يعترض عليه الناس ويقولون: إن دراستك وتعلّمك للقراءة والكتابة أمر مسلّم معروف لنا ،فكيف تنفي ذلك ؟
إنّ هذه قرينة واضحة على أُميّة النّبي .
وعلى كل حال ،فإنّ وجود هذه الصفة في النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان تأكيداً على نبوته حتى ينتفي أي احتمال في ارتباطه إلاّ بالله وبعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته .
هذا بالنسبة إلى فترة ما قبل النّبوة ،وأمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه تلقى القراءة أو الكتابة من أحد ،وعلى هذا بقي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أمُيّته حتى نهاية عمره .
ولكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة والقراءة ،والذين فسّروا «الأّمّية » بعدم المعرفة بالكتابة والقراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلى هذا التفاوت .
ولا مانع أبداً من أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان عارفاً بالقراءة والكتابة بتعليم الله ،ومن دون أن يتتلمذ على يد أحد من البشر ،لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإنسانية ،ومكملة لمقام النّبوة .
ويشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيت( عليهم السلام ){[1480]} أن نص الرواية ولكنّه لأجل أن لا يبقى أي مجال لأدنى تشكيك في دعوته لم يكن( صلى الله عليه وآله وسلم )يستفيد من هذه المقدرة .
وقول البعض: إنّ القدرة على الكتابة والقراءة لا تعدّ كمالا ،فهما وسيلة للوصول إلى الكمالات العلميّة ،وليسا بحدّ ذاتها علماً حقيقياً ولا كمالا واقعياً فإن جوابه كامن في نفسه ،لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضاً .
قد يقال: إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) بصراحة تفسير «الأُمّي » بعدم القراءة والكتابة ،بل بالمنسوب إلى «أم القرى » ( مكّة ) .
ونقول في الردّ: إنّ إحدى هاتين الروايتين «مرفوعة » حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند ،والرواية الأُخرى منقولة عن «جعفر بن محمّد الصوفي » وهو مجهول .
وأمّا ما تصوَّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة( يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) وآيات أُخرى دليل على أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يتلو القرآن على الناس من شيء مكتوب ،فهو خطأ بالغ ،لأنّ التلاوة تطلق على التلاوة من مكتوب على شيء ،كما تطلق على القراءة حفظاً ومن ظهر القلب ،واستعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرأون الأشعار أو الأدعية حفظاً ومن على ظهر القلب كثير .
من مجموع ما قلناه نستنتج:
1أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يتلق القراءة والكتابة من أحد حتماً ،وبهذا تكون إحدى صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ .
2أنّنا لا نملك أي دليل معتبر على أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرأ أو كتب شيئاً قبل النبوة ،أو بعدها .
3إنّ هذا الموضوع لا يتنافى مع تعليم الله تعالى القراءة أو الكتابة لنبيّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
3البشارات بظهور النّبي في العهدين:
إنّ الشواهد التأريخية القطعية ،وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة ( التوراة والإِنجيل ) تفيد أن هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسى( عليهما السلام ) وأن يد التحريف قد طالتهما ،بل إنّ بعضها اندرس واندثر ،وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلاّ خليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشيء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسى( عليهما السلام ) ممّا بقي في أيدي تلامذتهم .
وعلى هذا الأساس لا غرور ولا عجب إذا لم نقف على عبارات صريحة حول البشارة بظهور النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمّن إشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النّبي العظيم ،وقد جمعها ثلّة من علمائنا في كتب ومؤلفات مستقلة ،أو مقالات تتحدث في هذا المجال .وحيث أن ذكر كل تلك البشائر وما حولها من حديث وكلام ممّا يطول به المقام ،فإنّنا نكتفي بذكر بعض منها على سبيل المثال لا الحصر .
1جاء في سفر التكوين الإصحاح 17 العبارة 17 إلى 20: «وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك ،فقال الله ...وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ( أي دعاءك في حقه ) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جيداً .اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أُمّة كبيرة » .
2«لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجيله حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب » .
والجدير بالانتباه أن أحد معاني شيلونحسب تصريح المسترهاكس في كتاب قاموس الكتاب المقدسهو الإِرسال ،وهو يوافق كلمة «رسول » أو «رسول الله » .
3وفي إنجيل يوحنا الباب 15 العبارة رقم 16 جاء ما يلي: «وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم » .
4وكذا جاء في إنجيل يوحنا ذاته الإصحاح 16 العبارة رقم7: «لكنّي أقول لكم الحق: إنّه خير لكم أن أنطلق .لأنّه إن لَم أنطلق لا يأتيكم المعزّي .ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ،ومتى جاء ذاك هو يرشدكم إلى جميع الحق ،لأنّه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية »{[1481]} .
والنقطة الجديرة بالاهتمام أنّه جاءت الكلمة في إنجيل يوحنا باللغة الفارسية «المسلّي » ولكنّها في الإِنجيل العربي طبعة لندن ( مطبعة وليام وطس عام 1857 ) جاء مكانها: «فارقليطا » .