{أُخْرَاهُمْ}: اللاحقون مرتبةً أو زماناً من التابعين .
{لأولاهُمْ}: المتّبعون من رؤسائهم وأئمتهم أو من الأجيال السابقة عليهم الذي مهدوا لهم طريق الضلال .
{ضِعْفًا}: الضعف المثل الزائد على مثله ،فإذا قال القائل: أضعف هذا الدرهم ،فمعناه اجعل معه درهماً آخر لا ديناراً ،وكذلك إذا قال: أُضْعُفْ الاثنين ،فمعناه اجعلهما أربعة .وحكي أن المضعّف في كلام العرب ما كان ضعفين والمضاعف ما كان أكثر من ذلك .
أما المشهد الثاني ،فهو صوتٌ ينطلق من الله ،ليوجّه الأمر الحاسم بإدخال هؤلاء الكافرين في النار مع كل الأمم التي سبقتهم من الجن والإنس .ويدخل هؤلاء إلى النار ،فنسمعفي قلب هذا المشهداللعنات تتوالى وتتصاعد وتتشابك ،فكل أمّةٍ تلعن أختها التي سبقتها .اللعنات هي تحيات الداخلين من جديد للسابقين إلى النار ؛ولكنّها تحيّات الغضب والغيظ والمرارة التي تجيش في الصدور التي وحّد أفكارها الكفر ،ولم يستطع أن يوحّد مشاعرها وعلاقاتها ،أو يربط بينها برابطة التعاطف والتكاتف والاستسلام للمصير المشترك بدون سلبياتٍ في علاقاتها المشتركة ...
إنها وقفات الغيظ المتفجر ،التي تريد أن تصب النقمة والسخط واللعنة على الآخرين الذين تعتبرهم مسؤولينحقاً أو باطلاًعن هذا المصير ،لتخفّف من وقع الصدمة على النفس بالإيحاء بمسؤولية الآخرين عن ذلك .
وهنا ينفتح نوعٌ من الحوار بينهم ،لا يخاطبون فيه بعضهم البعض وجهاً لوجهٍ ،بل تتوجه الجماعة الأخيرة أمام الجماعة الأولى بالدعاء إلى الله في أن يضاعف عذابه لمن سبقهم ،لأنهم أساس الضلال ؛فكأنهم يريدون إفهامهم هذه القضية بهذا الأسلوب ،ليختصروا الحوارين في حوارٍ واحدٍ .
وينطلق عن الله صوتٌ جديدٌ ،ليقول لهم: إن لكلٍّ منكم ضعفاً من العذاب ؛أما الأولون منكم ،فإنهم ضلوا الطريق وأعانوكم على الضلال ،وأما أنتم ،فإنكم ضللتم وأعنتموهم على الإضلال باتباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم وتكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم .{وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} ،لأنكم لا تعرفون طبيعة العذاب ،لتعرفوا كيف يكون العذاب ضعفاً .وتجيب الجماعة الأولى بأسلوب يقرب إلى التهكم والتشفّي:{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} إننا سواءٌ في المسؤولية وفي نتائجها ...التي هي جزاء ما كسبناه من انحرافٍ وإجرام .
ويُسدل الستار على القصة ،ليبدأ فصلٌ جديد ،يأخذ فيه الإنسان درساً عملياً لمستقبل حياته ،كي لا يواجه يوم القيامة ما واجهه هؤلاء من الذلّ والخزي والعذاب .
المعطيات العملية للقصة
أما كيف نستوحي هذا الدرس من هذا الموقف الذي يريد الله فيه أن يستبق موعد حدوث النهاية ،فيخبرنا عنها ليجنّبنا تجربة الوقوع فيها دون وعيٍ وانتباه ...أمّا كيف نستوحي هذا كله ،فهذا يتجلّى بنقاط عدة .
1التأكيد على رفض التبعية في العقيدة ،وفي الممارسة ،وفي الموقف ،وضرورة الاستقلال الذاتي في تحصيل القناعة بما تعتقده النفس ،وما تمارسه وما تتخذه من مواقف ،لأن أي تبرير للتبعية في أيّة زاويةٍ من زوايا العلاقات العامّة والخاصّة ،لا يمنع من تحمّل المسؤولية ومواجهة نتائجها في الدنيا والآخرة .
العقيدة المنحرفة لا تصنع الوحدة الروحية
2إن الارتباط بين الأفراد والجماعات ،على أساس العقيدة المنحرفة أو السلوك المنحرف ،لا يصنع الوحدة الروحية أو الرابطة المصيرية التي تجمع بينهم ،لتدفعهم إلى التضامن والمشاركة في نتائج المسؤولية دون تأفّف أو تذمرٍ ....ولعل السبب في ذلك هو أن الانحراف لا يخضع للفكر والصدق ،بل يخضعغالباًللمصلحة الذاتية وللعلاقات العاطفية ،مما يدفع الإنسان إلى التخلّي عن صاحبه عند أيّة إشارةٍ للخطر الكبير ،أو أيّة صدمةٍ بالمصير السيّىء ،فتكون النتيجة مزيداً من الملاعنة ،أو المزايدة ،في إلقاء كل طرفٍ المسؤولية على الطرف الآخر .
تحليل الدعاة للمواقف العامّة للناس
3أن يعمل الدعاة إلى اللهسبحانهعلى التوسّع في التحليل للمواقف الكثيرة التي تندفع فيها التيارات الإلحادية أو الانحرافية إلى بعض مجتمعاتنا المسلمة ،ليتقبلها الناس بقوة ،بفعل القوة السياسية التي يمثلها دعاتها أو القوة الاقتصادية التي تدعمهم ،أو تحت تأثير القوة العسكرية التي تقاتل من أجل فرضها ،أو بفعل الإغراءات المادية والعاطفية ،أو القوة العددية ،أو غير ذلك من القوى التي تمثل دوافع تشد الناس إلى تقبل هذا التيّار أو ذاك ،بغض النظر عن فساده أو صلاحه ،فتلك أمور لا يبحث الناس فيها عادة إلا بعد تحصيل القناعة ،لتبرير ما اتّخذوه من موقف وما مارسوه من عمل ،للإيحاء إلى الذات بصوابية ما قاموا به .
ولعلّنا نشعر بقيمة هذا التحليل ،عندما نتعرّف إلى الواقع الذي يفرض نفسه على المواقف الفكرية والعملية ،من خلال الدوافع والمؤثرات البعيدة عن التأمل والتفكير والحق والباطل ...فنبدأ بعد ذلك في رسم الخطة العملية التي تسعى لوضع الناس وجهاً لوجه أمام دوافعهم اللاواعيةكما يعبّر علماء النفسثم يُربط الموقف بقضية الحرية والكرامة والاستقلالية في الرأي ،أو برواسب الإيمان العميقة ،لاستثارة تلك المشاعر فيهم في حركة التفافٍ بارعةٍ على فكر الإنسان .ثم الاتجاه إلى استباق المراحل ،بقطع الطريق على تلك التيارات ،وعدم إفساح المجال أمام ما يمكن أن تستفيد منه عمليات الإضلال من أوضاعٍ شاذة ،وذلك بخلق مناعةٍ ذاتيةٍ لدى المجتمع ضدها .
وقد يفيدنا في هذا المجال أن نثير ،أمام الناس ،الواقع الذي يعيشونه في ظل الازدواجيّة الفكرية والأخلاقية ،بين ما يعتقدون وما يقلدون ،والتأكيد على الآثار السيِّئة المترتبة على ذلك ؛مما يجعل الإنسان في قلقٍ أو حيرةٍ إزاء انقسام الشخصية وتوزّعها بين دافعين ،يشدها أحدهما إلى الأمام ،ويجرّها الثاني إلى الوراء .وقد نجد في هذه الآيات الكريمة بعض الدروس الرائعة التي تجعل من الموقف موضوعاً يرتبط بقضية المصير في الدنيا والآخرة ،لتوحي للإنسان بالابتعاد عن المواقف السريعة وعن السطحية والارتجاليّة والانفعال الذاتي ،لأن مثل هذه المؤثرات قد تكون مقبولة في الحالات الطارئة المحدودة ،ولكنها لن تكون مقبولةً في قضايا المصير الذي يهدّد وجود الإنسان في الدنيا والآخرة .