{أَيَّامٍ}: جمع يوم ،قال الراغب في المفردات: اليوم يعبَّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها ،وقد يعبَّر به عن مدة من الزمان أيّ مدةٍ كانت .
وربما كانت الاستعمالات القرآنية لكلمةٍ «اليوم » تنطلق من المعنى الثاني ،وذلك كما في كلمة «يوم القيامة » الذي يستغرق خمسين ألف سنة كما جاء في ( سورة المعارج الآية:4 ) .وقد أطلق اليوم على المدة الطويلة من الزمن التي تتّصف بعنوان سلبي أو إيجابي في حياة الإنسان .جاء في نهج البلاغة: «الدهر يومان يوم لك ويوم عليك » ،مما يعبر عن الدورة الزمنية التي تستغرق واقع الإنسان في هذه الحالة أو تلك .
وعلى ضوء ذلك ،انطلقت الكلمات التي تعبّر باليوم عن عهد دولة معينة في سيطرتها على الواقع بعد أن تخلفها دولة أخرى في ذلك ،فيقال: لقد سيطرت الجماعة الفلانية يوماً وسيطرت الآخرى يوماً آخر .
وفي هذا الاتجاه ،يمكن توجيه الحديث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيامكما جاء في هذه الآيةأمام النظرية العلميةغير القطعيةالتي تقول: بأن تكوّن الأرض والسماء قد استغرق مليارات السنين على النحو التاليكما ذكره صاحب تفسير الأمثل:
1يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل ،نتج أن انفصلت منها أجزاء بسبب دورانها حول نفسها ،وتشكّلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم .
2هذه الكرات قد تحوّلتتدريجياًإلى كتلةٍ من المواد الذائبة المشعّة أو الباردة القابلة للسكنى .
3في دورةٍ أخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس .
4في الدورة الرابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة .
5ثم ظهرت النباتات والأشجار على الأرض .
6وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض .
إنّ من الممكن إطلاق كلمة اليوم على الدورات الستة التي تمثلها النظرية العلمية ،ولكننامع هذا كلهلا نستطيع أن نفرض هذا الرأي على الآية القرآنية وأمثالها ،لأنه لم يصل إلى الحقيقة العلمية الحاسمة ،باعتبار انطلاقها من بعض المقدّمات الظنية الاستنتاجية التي يمكن أن تخطىء أو تصيب ،مما لا يمكن إخضاع القرآن له ،لأنه الذي يمثّل الكلمة الإلهية الفاصلة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
{اسْتَوَى}: الاستواءلغةًاستقامة الشيء واعتداله ،والمراد به هنا السيطرة والاستيلاء والملك ،كما يقال: جلس فلان على العرش ،أي سيطر على الملك ،وثل عرشه أي خرجت السيطرة من يده وسقط ملكه ،وهو عبارة عن إحاطة الله الكاملة وسيطرته على الكون وتدبيره له من موقع القدرة المطلقة على جميع مقدّراته ومواقعه .
{الْعَرْشِ}:في اللغةكل شيء له سقف وربما يطلق على السقف نفسه ،كما في قوله تعالى{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [ البقرة:259] .وقد يطلق على سرير الملك وكرسيّه في مجلس الحكم والتدبير ،كما في قوله تعالى:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} [ النمل: 38] .
أمّا استعماله في «عرش الله » ،فالظاهر أنه كناية عن الكون كله في عالم الوجود الذي يمثل الملك المطلق لله في كل شيء موجود .
وعلى ضوء ذلك ،فان التعبير وارد على نحو الكناية لا على نحو الاستعمال الحقيقي بالمعنى المادي للكلمة ليكون حجّة للجسمانيين الذي حاولوا الأخذ بحرفية الكلمات القرآنية ،فتصوروا اللهمن خلال ذلكجسماً مادياً كبقية الأجسام الأخرى في حاجتها إلى العوارض المختصة بالجسم ،وغفلوا عن أن القرآن انطلق في أسلوبه الفني من القمة البلاغية التي تعتمد على الاستعارة والكناية كما تعتمد على الحقيقة حسب الحاجة الفنية للتعبير .
{يُغْشِى}: يغطي ،يقال: غشّى الشيءُ الشيءَ: ستره وغطاه ،وأغشاه إياه: جعله يغشاه أي يغطيه ويستره ،ومنه إغشاء الليل النهار لا إغشاء النهار الليل ،لأن الغطاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء .
{حَثِيثًا}: مسرعاً .والحثيث: السير السريع بالسوق ،من قولهم: فرس حثيث السير أي سريعة .
{مُسَخَّرَاتٍ}: أي مذلّلات خاضعات لتصرفه ،منقادات لمشيئته .
{بِأَمْرِهِ}: أي بتدبيره وتصرّفه .
{الْخَلْقُ}: الإيجاد الأوّل المتحرك في نطاق التقدير الإلهي في تنوعاته وشروطه وخصائصه في البسائط والمركب .
{وَالأمرُ}: هو السنن والقوانين المتحركة في نظام الوجود في إيصاله إلى غاياته التي أرادها الله ،سواء في عالم الظواهر الكونية أو الواقع الإنساني ،في السنن التاريخية الحاكمة على مسيرته في أوضاعه العامة والخاصة الصادرة عن الله من خلال أمره التكويني الذي يقول للشيء ،في وجوده ونظامه وسننه ،كن فيكون ،من خلال شأنه وموقعه الربوبي في خالقيّته وتدبيره .
وفي هذا إيحاء بالإبداع الإلهي للوجود ،وبالربوبية المهيمنة المنفتحة على كل حركته ،بحيث تشرف عليه في بقائه واستمراره ،فلا تهملهبعد إيجادهليعيش في فوضى الصدف الضائعة في الفراغ .
{تَبَارَكَ}: مأخوذة من البركة وأصلها الثبات ،والمراد منه الخير الكثير الثابت ،وأما مناسبته لله ،فهو في وجوده المبارك الأزلي الأبدي الذي هو منشأ الخيرات والبركات ومنبع الخير المستمرّ .
القرآن وتحريك الإيمان في قلب الحياة
في هذه الآيات صورةٌ حيَّةٌ كونيةٌ رائعةٌ ،توحي للإنسان بعظمة الله من خلال عظمة خلقه ،ليستشعر الإنسانوهو يتأمّل ذلك كلهإيمانه بالله في رحاب الكون ؛في النهار عندما تتوهّج الحياة بيقظة النور ،وفي الشمس عندما تنشر الدفء والإشراق في كل زاويةٍ من زوايا الكون ،وفي القمر عندما ينساب نوره هادئاً ناعماً وديعاً في أجواء الليل الهادئة الموحية بالخدر اللذيذ في إغماضة الجفون على الأحلام الجميلة ،وفي النجوم التي تتجمّع في ظلام الكون كحبّات نور متناثرةٍ في الفضاء ...وهكذا تتكامل الصورة كلّما امتدّت آفاق المعرفة في وعي الإنسان في ما يشاهده ويلمسه ويعيه من خلق الله ...ثم تتعاظم الفكرة من خلال الصورة في عقله وشعوره ،فيحسّ بالخضوع لله الذي أبدع ذلك كله ،فيتضرع له ويخاف منه ،ويطمع به ،وتتحرك أحلامه الكبيرة في اتجاه القرب منه ...وذلك هو أسلوب القرآن في تحريك الإيمان في قلب الحياة ،ليتنامى ويتصاعد وينساب في حياة الإنسان اليومية ،كما لو كان شيئاً مرئياً تلمع به العيون ،أو مظهراً كونياً تتلاقى حوله العقول .وبذلك تلتقي الفطرة بالإيمان من أقرب طريق .
العرش مظهر السلطة الإلهية الأعلى
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ،وهو القادر على أن يخلقها في لحظة ،ولكنه أراد للحياة أن تتدرّج في الوجود من خلال ارتباط بعضها ببعضٍ في طريقة تكامليةٍ .{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ما يرمز إليه الاستواء من الهيمنة والسيطرة والسلطة ،وما توحي به كلمة{الْعَرْشِ} من مركز الملك والحكم ،بعيداً عن أي معنى يتصل بالتجسيد لله ،أو بالشكل المادي للعرش… ولا ينافي ذلك ما ورد في الأحاديث المتنوعة عن منطقة في السماء تسمى بالعرش ،أو ما جاء في الآية الكريمة:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [ الحاقة:17] لأنّ من الممكن أن يكون المراد به المنطقة لأعلى في الكون ،باعتبار أنّ ذلك هو مظهر السلطة والسيطرة على الكون على سبيل الكناية ؛والله العالم .
الليل يلاحق النهار
{يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} .وهذا من مظاهر قدرة الله ،حيث نرى الليل يلاحق النهار بظلامه فيستره ،ويطلبه طلباً سريعاً فيدركه ؛تماماً كمن يلاحق شخصاً آخر في عملية ملاحقةٍ سريعة .وربما كان في هذا إشارةٌ إلى أن الليل هو الأصل والنهار طارىء ،فلم يكن هناك قبل الشمس ضياءٌ ،فكأن النهار في مجيئه وإشراقه قد أخذ من الليل سلطانه ،فبدأ الليل في محاولة دائمة وطلب حثيث لاسترجاع بعض ما فقده من ذلك ..
كل ما في الكون طوع أمر الله تعالى
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} فقد خلقها الله وحركها بإرادته وقدرته ،وسخّرها بأمره ،ليؤدي كل واحد منها دوره في حركة الحياة وفقاً للقوانين الحكيمة التي أودعها الله فيها ،في نظام دقيق حكيم لا تختلف أوضاعه ولا ترتبك مسيرته ،وأراد للإنسان أن ينتفع بذلك كله ،في ما وهبه من عقلٍ وما مكّنه من وسائل القدرة ...{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ} فلا خالق غيره ،ولا يملك الخلق إلا هو ،{وَالأمْرُ} فلا أمر إلا أمره ،لا أمر لأحدٍ مع أمره .فإذا أراد شيئاً ،فإنه يقول له كن فيكون .{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فله البركة التي تمتد بكل البركات على كل العالمين ،فهو الرب لكل شيءٍ لا رب غيره ،ولا إله سواه ..