التّفسير
في الآيات السابقة قرأنا أنّ المشركين يقفون يوم القيامة على خطأهم الكبير في صعيد انتخاب المعبود ،والآية الحاضرة تصف المعبود الحقيقي مع ذكر صفاته الخاصّة حتى يستطيع الذين يطلبون الحقيقة وينشدونها أن يعرفوه بوضوح في هذا العالم وقبل حلول يوم القيامة ،ويبدأ حديثه هذا بقوله: ( إنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيام ) أي أنّ المعبود لا يمكن أن يكون إلاّ من كان خالقاً .
هل خلق العالم في ستّة أيّام ؟
لقد ورد البحث عن خلق العالم وتكوينه في ستّة أيّام ،في سبعة موارد من آيات القرآن الكريم{[1405]} ،ولكنّه في ثلاثة موارد أضيف إلى السماوات والأرض لفظة «وما بينهما » أيضاً .والتي هي في الحقيقة توضيح للجملة السابقة ،لأنّ جميع هذه الأشياء تدخل في معنى السماوات والأرض ،لأنّنا نعلم أنّ السماء تشمل جميع الأشياء التي توجد في الأعلى ،والأرض هي النقطة المقابلة للسماء .
وهنا يتبادر هذا السؤال فوراً وهو: قبل أن تخلق السماوات والأرض لم يكن ليل ولا نهار ليقال: خلقت السماوات والأرض فيهما ،لأنّ الليل والنهار ناشئان من دوران الأرض حول نفسها في مقابل الشمس .
هذا مضافاً إلى أنّ ظهور المجموعة الكونية في ستّة أياميعني أقل من أسبوعيخالف العلم ،لأنّ العلم يقول: لقد استغرق تكوّن الأرض والسماء حتى وصل إلى الوضع الحالي ملياردات من السنوات والأعوام .
ولكن نظراً إلى المفهوم الواسع للفظة «يوم » وما يعادلها في مختلف اللغات ،يكون جواب هذا السؤال واضحاً ،لأنّه كثيراً ما يستعمل اليوم بمعنى الدورة ،سواء استغرقت مدة سنة ،أو مائة سنة ،أو مليون سنة أو ملياردات السنين ،والشواهد التي تثبت هذه الحقيقة ،وتفيد أنّ أحد معاني اليوم هو الدورة ،كثيرة:
1لقد استعملت لفظة اليوم والأيّام في القرآن الكريم مئات المرات ،وفي كثير من الموارد لم تكن بمعنى الليل والنهار ،مثلا يعبر عن عالم البعث بيوم القيامة ،وهذا يشهد بأنّ مجموع عملية القيامة التي هي دورة طويلة الأمد والمدّة ،تسمى يوم القيامة .
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ يوم القيامة ومحاسبة أعمال الناس يستغرق خمسين ألف سنة ( سورة المعارج الآية 4 ) .
2نقرأ في كتب اللغة أيضاً أنّ اليوم ربّما يطلق على الزمن بين طلوع الشمس وغروبها ،وربّما على مقدار من الزمان مهما كان قدره ،قال الراغب في المفردات: «اليوم يعبّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها ،وقد يعبّر عن مدة من الزمان أي مدّة كانت » .
3جاء في روايات أئمّة الدين وأحاديثهمكذلكاستعمال اليوم بمعنى الدهر ،كما روي عن أمير المؤمنين( عليه السلام ) في نهج البلاغة أنّه قال: «الدّهر يومان: يوم لك ،ويوم عليك » .
ونقرأ في تفسير البرهان في تفسير هذه الآية ،عن تفسير علي بن إبراهيم الإمام( عليه السلام ) قال: «في ستة أيّام ،أي في ستة أوقات » ،أي في ست دورات .
4كثيراً ما نشاهد في المحاورات اليومية ،وأشعار الشعراء في اللغات المختلفة ،أنّ كلمة اليوم وما يعادلها قد استعملت بمعنى الدورة والعهد ،مثلا نقول يوم كانت الكرة الأرضية حارة ومشتعلة ،ويوم صارت باردة وظهرت فيها آثار الحياة ،في حين أنّ فترة سخونة الأرض واشتعالها استغرقت ملياردات من الأعوام .
أو عندما نقول غصب آل أُمية الخلافة الإسلامية يوماً ،وغصبها بنو العباس يوماً آخر .في حين أنّ فترة اغتصاب الأمويين للخلافة استغرقت عشرات السنين وفترة اغتصاب العباسيين لها استغرقت المئات .
من مجموع الحديث السابق نستنتج أنّ الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ست دورات متوالية ،وإن استغرقت كل دورة من هذه الدورات ملايين أو ملياردات السنين ،والعلم الحديث لم يبيّن أي أمر يخالف هذا الموضوع .
وهذه الدوراتاحتمالاهي على الترتيب:
1يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل ،فانفصلت منها أجزاء بسبب دورانها حول نفسها ،وتشكلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم .
2هذه الكرات قد تحولت تدريجاً إلى هيئة كتلة من المواد الذائبة المشعة أم الباردة القابلة للسكنى .
3في دورة أُخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس .
4في الدورة الرّابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة .
5ثمّ ظهرت النباتات والأشجار على الأرض .
6وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض .
وكل ما ذكرناه أعلاه من الأدوار الستة لعملية خلق وتكوين السماوات والأرض تنطبق على الآيات ( 8 ) إلى ( 11 ) من سورة فصلت التي سيأتي تفسيرها في المستقبل إن شاء الله .
لماذا لم يخلق الله العالم في لحظة واحدة ؟
وهنا يطرح سؤال آخر نَفسَه وهو: لماذا خلق الله السماوات والأرض في دورات عديدة وطويلة ،وهو القادر على خلقها في لحظة واحدة ؟
إنّ جواب هذا السؤال يمكن الوقوف عليه بالالتفات إلى نقطة واحدة ،وهي أنّ الخلق لو تمّ في لحظة واحدة ،لكان ذلك أقل دلالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ،ولكن لما تمّت عملية الخلق والتكوين في مراحل مختلفة وأشكال متنوعة ،وفق برنامج منظم محسوب ،كان لذلك دلالة أوضح على معرفة الخالق .
ففي المثل لو كانت النّطفة البشرية تتبدل في لحظة واحدة إلى وليد كامل ،لمّا كان ذلك يحكي عظمة الخلق والتكوين ،ولكن عندما ظهر الوليد خلال 9 أشهر ،وضمن برنامج دقيق واتخذ في كل يوم وشهر شكلا خاصاً وصورة خاصّة ،استطاعت كل واحدة من هذه المراحل أن تقدّم آية جديدة من آيات العظمة الإلهية ،وتكون دليلا جديداً على قدرة الخالق .
ثمّ يقول القرآن الكريم: إنَّ الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض أخذ زمام إدارتها بيده ( أي ليس الخلق منه فقط ،بل منه الإدارة والتدبير أيضاً ) فقال تعالى: ( ثمّ استوى على العرش ) .
وهذا جواب لمن يعتقد أنّ الكون محتاج إلى الله تعالى في الخلق والإيجاد دون البقاء .
ما هو العرش ؟
«العرش » في اللغة هو ما له سقف ،وقد يطلق العرش على نفس السقف ،مثل قوله تعالى: ( أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ){[1406]} .
وربّما يأتي بمعنى الأسرة الكبيرة المرتفعة ،مثل أُسرة الملوك والسلاطين ،كما جاء في قصة سليمان: ( أيكم يأتيني بعرشها ){[1407]} .
وهكذا يطلق لفظ العرش على الأسقف التي يقيمها المزارعون لحفظ بعض الأشجار ،وبخاصّة المتسلقة منها ،كما نقرأ في القرآن الكريم ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ){[1408]} .
ولكن عندما ينسب إلى الله سبحانه وتعالى ويقال: عرش الله ،يراد منه مجموعة عالم الوجود ،الذي يعدّ في الحقيقة سرير حكومة الله تعالى .
وأساساً فإنّ عبارة ( استوى على العرش ) كناية عن سيطرة حاكم من الحكام على أُمور بلده ،كما أنّ المراد من جملة «ثلّ عرشه » هو خروج زمام الأمر من يده وفقدان السيطرة عليه ،وقد استعملت هذه الكناية في اللغة بكثرة إذ يقال: إنّ جماعة من الناس ثارت في البلد الفلاني ،وأنزلت حاكمه من سريره وعرشه ،في حين من الممكن أن لا يكون لذلك الزعيم والحاكم تخت أصلا .
أو يقال: إنّ جماعة من الناس أيدوا فلاناً ،وأجلسوه على العرش ،فكل هذه كناية عن امتلاك السلطة أو فقدانها .
وعلى هذا تكون عبارة ( استوى على العرش ) كناية عن الإحاطة الكاملة لله تعالى وسيطرته على تدبير أمور الكونسماء وأرضاًبعد خلقها .
ومن هنا يتّضح أنّ الذين أخذوا هذه الجملة دليلا على «جسمانيّة الله » كأنّهم لم يلتفتوا إلى موارد استعمال هذه الجملة العديدة في هذا المعنى الكنائي .
وهناك معنى آخر للعرش ،وهو أنّه قد ورد أحياناً في قبال «الكرسي » وفي مثل هذه الموارد يمكن أن يكون الكرسي ( الذي يطلق عادة على المقعد القصير القوائم ) كناية عن العالم المادي ،والعرش كناية عن عالم ما فوق المادة ( أي عالم الأرواح والملائكة ) كما جاء في تفسير آية ( وسع كرسيه السماوات والأرض )التي مرّت في سورة البقرة .
ثمّ يقول بأنّه تعالى هو الذي يلقي بالليلكغشاءعلى النهار ،ويستر ضوء النهار بالأستار المظلمة ( يُغشي الليلَ النهارَ ) .
والملفت للنظر أنّ العبارة المذكورة ذكرت في مجال الليل فقط ،ولم يقل ( ويغشي النهار الليلَ ) لأنّ الغطاء والغشاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء .
ثمّ يضيف بعد ذلك قائلا: إنّ الليل يطلب النهارَ طلباً حثيثاً ( يطلبه حثيثاً ) .
إنّ هذا التعبيرنظراً لوضع الليل والنهار في الكرة الأرضيةتعبير في غاية الروعة والجمال ،لأنّه لو نظر أحد إلى كيفية حركة الكرة الأرضية من الخارج ،وكيفية دورانها حول نفسها ووقوع ظلها المخروطي الشكل على نفسها ،مع العلم أنّ الكرة الأرضية تدور بسرعة فائقة حول نفسها ( أي في حدود 30 كيلومتراً في الدقيقة ) لأحس أنّ غول الظلّ المخروطي الأسود يجري بسرعة كبيرة على هذه الكرة خلف ضوء النهار .
ولكن هذا الأمر غير صادق بالنسبة إلى ضوء النهار ،لأنّ ضوء الشمس منتشر في نصف الكرة الأرضية وفي جميع الفضاء المحيط بأطراف الأرض ،ولا يتخذ لنفسه شكلا خاصاً ،وإنّما ظلمة الليل فقط هي التي تدور مثل شبح غامض الأسرار حول الأرض .
ثمّ يضيف تعالى أنّه هو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم ،وهي خاضعة لأمره بعد خلقها: ( والشمس والقمر والنجوم وهي مسخرات بأمره ) .
( وسوف نبحث حول تسخير الشمس والقمر والنجوم ومعاني ذلك في ذيل الآيات المناسبة بإذن الله تعالى ) .
ثمّ بعد ذكر خلق العالم ونظام الليل والنهار ،وخلق الشمس والقمر والنجوم ،قال مؤكّداً: اعلموا أنّ خلق الكون وتدبير أُموره كلّه بيده سبحانه دون سواه ،( ألا له الخلق والأمر ) .
ما هو «الخلق » و «الأمر » ؟
هناك كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من «الخلق » و «الأمر » أنّه ما هو ؟
ولكن بالنظر إلى القرائن الموجودة في هذه الآيةوالآيات القرآنية الأُخرى يستفاد أنّ المراد من «الخلق » هو الخلق والإيجاد الأوّل .والمراد من «الأمر » هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى ،والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له .
إن هذا التعبيرفي الحقيقةردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله ،وجلس جانباً .أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده وحدوثه ،دون بقائه واستمراره .
إنّ هذه الجملة تقول: كلاّ ،بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله ،كذلك يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله ،ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة .
وقد مال بعض الفلاسفة إلى أن يفسّر عالم «الخلق » بعالم «المادة » وعالم «الأمر » بعالم «ما وراء المادة » لأنّ لعالم الخلق جانباً تدريجياً ،وهذه هي خاصية المادة .ولعالم الأمر جانباً دفعياً وفورياً ،وهذه هي خاصية عالم ما وراء المادة ،كما نقرأ في قوله تعالى: ( إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ){[1409]} .
ولكن بالنظر إلى موارد استعمال لفظة الأمر في آيات القرآن ،وحتى عبارة ( والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) الواردة في الآية المبحوثة يستفاد الأمر يعني كل أمر إلهي سواء في عالم المادة أو في عالم ما وراء المادة ( تأملوا رجاءً ) .
ثمّ في ختام الآية يقول: ( تبارك الله رب العالمين ) .
في الحقيقة إنّ هذه الجملةبعد ذكر خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وتدبير عالم الوجودنوع من الثناء على الذات الربوبية المقدسة ،وقد سيق لتعليم العباد .
و «تبارك » من مادة البركة وأصلها «بَرْك » ومعناها صدر البعير ،حيث أنّ الإبل عندما تستقر في مكان ما تلصق صدورها على الأرض ،لهذا اتخذت هذه الكلمة تدريجياً معنى الثبوت والاستقرار والاستتباب ،ثمّ وصفت وسمّيت كل نعمة مستقرة ودائمة ،وكل كائن طويل العمر ،ومستمر الآثار والخيرات ،بأنّه موجود مبارك ،ويقال أيضاً للمكان الذي يتجمع فيه الماء «بركة » لبقائه في ذلك المكان مدة طويلة .
من هنا يتّضح أنّ رأس المال «المبارك » هو الذي يتصف بالدوام ،والكائن «المبارك » هو الموجود المستديم الآثار ،ومن البديهي أنّ أليق وجود لهذه الصفة هو وجود الله تعالى ،فهو وجود مبارك أزلي أبدي ،وهو بالتالي منشأ جميع البركات والخيرات ،ومنبع الخير المستمر ( تبارك الله رب العالمين ) ( وسوف نتحدث في هذا المجال في تفسير الآية ( 92 ) من سورة الأنعام أيضاً ) .