{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} الذين أسلموا وجوههم لله ،فلم يلتفتوا إلى غيره ،{وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} وهم الجائرون العادلون عن الحق ،{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} لأن الإسلام في معناه العميق يفتح الإنسان بكل آفاقه على الله ،فلا يبقى له أفقٌ مفتوح على غيره ،ولا إرادة له إلا الإِرادة الخاضعة لإرادة الله .ولذلك كانوا المصدّقين بالرسالات ،التابعين للرسل ،السائرين في الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه ،ويؤدي بهم في نهاية المطاف إلى الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين ،هذا بالإضافة إلى ما في الإسلام ،كدين شامل ،من مضمون فكريٍّ وروحيّ وعمليّ ،يطلّ على واقع الإنسان كله ،من موقع التوازن الذي يرعى كل جوانبه وكل تطلعاته ،بحيث لا يشعر بالغربة معه في كل مفرداته الفكرية والشرعية ،وهذا هو الرشد الذي تحراه هؤلاء المسلمون في سعادة الدنيا والآخرة .
وقد نستوحي من كلمة{تَحَرَّوْا} أن وصولهم إلى هذه النتيجة في قناعاتهم الإيمانية في ما أسلموا به حياتهم لله ،لم يكن حالة انفعالية ناشئة من تأثير البيئة المحيطة بهم ،أو من الخضوع الغريزي للتاريخ العاطفي المتصل بآبائهم وأجدادهم ،بل كان حالةً إراديةً واعيةً ناشئةً من البحث والتطلع إلى كل الاحتمالات المتنوعة في أذهانهم ،وإلى كل الأفكار المطروحة في واقع الحياة ،ليكون الاختيار من موقع القناعة المرتكزة على التأمل العميق ،والتفكير الواسع .وهذا ما يتّصف به المسلمون الذين يحملون مسؤولية الانتماء قبل أن يختاروا الإسلام كعقيدةٍ ومنهج حياة ،كما يحملون مسؤوليته بعد ذلك ليحافظوا عليه في أنفسهم وفي المجتمع الذي يلتزمون فيه خطّ الدعوة من أجل هدايته إليه .