{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ( البقرة:106 ) .
التفسير:
قوله تعالى:{ما ننسخ من آية أو ننسها} فيها ثلاث قراءات ؛الأولى: بفتح النون الأولى في{نَنسخ}؛وضمها في{نُنسها} بدون همز ؛والثانية: بفتح النون الأولى في{نَنسخ}؛وفتحها في{نَنسأها} مع الهمز ؛والثالثة بضم النون الأولى في{نُنسخ}؛وضمها في{نُنسها} بدون همز ..
قوله تعالى:{ما ننسخ من آية ...}؛{ما}: شرطية ؛وهي اسم شرط جازم يجزم فعلين ؛الأول: فعل الشرط:{ننسخ}؛والثاني: جوابه:
{نأت}؛وأما قوله تعالى:{أو ننسها} فهي معطوفة على ( ننسخ )
وقوله تعالى:{ننسخ من آية أو ننسها} بضمير الجمع للتعظيم ؛وليس للتعدد ؛لأن الله واحد ؛و "النسخ "معناه في اللغة: الإزالة ؛أو ما يشبه النقل ؛فالأول كقولهم:"نسخت الشمس الظل "يعني أزالته ؛والثاني كقولهم:"نسخت الكتاب "؛إذ ناسخ الكتاب لم يزله ،ولم ينقله ؛وإنما نقش حروفه ،وكلماته ؛لأنه لو كان"نسخ الكتاب "يعني نقله كان إذا نسخته انمحت حروفه من الأول ؛وليس الأمر كذلك ؛أما في الشرع: فإنه رفع حكم دليل شرعي ،أو لفظه ،بدليل شرعي ؛و{مِن} لبيان الجنس ؛لأن{ما} اسم شرط جازم مبهم ؛والمراد ب"الآية "الآية الشرعية ؛لأنها محل النسخ الذي به الأمر والنهي دون الآية الكونية ..
وقوله:{ننسها} من النسيان ؛وهو ذهول القلب عن معلوم ؛وأما{ننسأها} فهو من"النسأ "؛وهو التأخير ؛ومعناه: تأخير الحكم ،أو تأخير الإنزال ؛أي أن الله يؤخر إنزالها ،فتكون الآية لم تنزل بعد ؛ولكن الله سبحانه وتعالى أبدلها بغيرها ؛وأما على قراءة{ننسها} فهو من النسيان ؛بمعنى نجعل الرسولصلى الله عليه وسلم ينساها ،كما في قوله تعالى:{سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله} [ الأعلى: 6 .7]؛والمراد به هنا رفع الآية ؛وليس مجرد النسيان ؛لأن مجرد النسيان لا يقتضي النسخ ؛فالنبيصلى الله عليه وسلم قد ينسى بعض الآية ؛وهي باقية كما في الحديث:"أن النبيصلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة فترك شيئاً لم يقرأه فقال له رجل: تركت آية كذا وكذا ،فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: هلَّا أذكرتنيها{[136]} "..
قوله تعالى:{نأت بخير منها} هو جواب الشرط ؛والخيرية هنا بالنسبة للمكلف ؛ووجه الخيرية .كما يقول العلماء .أن النسخ إن كان إلى أشد فالخيرية بكثرة الثواب ؛وإن كان إلى أخف فالخيرية بالتسهيل على العباد مع تمام الأجر ؛وإن كان بالمماثل فالخيرية باستسلام العبد لأحكام الله عز وجل ،وتمام انقياده لها ،كما قال تعالى:{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [ البقرة: 143] ..
قوله تعالى:{أو مثلها} أي نأتي بمثلها ..
قوله تعالى:{ألم تعلم} الهمزة هنا للاستفهام ؛والمراد به التقرير ؛وكلما جاءت على هذه الصيغة فالاستفهام فيها للتقرير ،مثل:{ألم نشرح لك صدرك} [ الشرح: 1]؛فقوله تعالى:{ألم تعلم} يقرر الله المخاطَب .سواء قلنا: إنه الرسولصلى الله عليه وسلم ؛أو كل من يتأتى خطابه .بالاستفهام بأنه يعلم{أن الله على كل شيء قدير}؛يعني أنك قد علمت قدرة الله على كل شيء ؛ومنها القدرة على النسخ ..
وقوله تعالى:{قدير}: لما أريد بها الوصف جاءت على صيغة"فعيل "؛لكن إذا أريد بها الفعل تكون بصيغة"الفاعل "،كما في قوله تعالى:{قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم} [ الأنعام: 65]؛و"القدرة "صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز ؛و "القوة "صفة تقوم بالقوي بحيث يفعل الفعل بلا ضعف ؛إذاً المقابل للقدرة: العجز ؛لقوله تعالى:{وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [ فاطر: 44]؛والمقابل للقوة: الضعف ،قال تعالى:{الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة} [ الروم: 54]؛والفرق الثاني بينهما: أن"القوة "يوصف بها من له إرادة ،وما ليس له إرادة ؛فيقال: رجل قوي ؛وحديد قوي ؛وأما"القدرة "فلا يوصف بها إلا ذو إرادة ؛فلا يقال: حديد قادر ..
تنبيه: .
من هذا الموضع من السورة إلى ذكر تحويل القبلة في أول الجزء الثاني تجد أن كل الآية توطئة لنسخ استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ؛ولهذا تجد الآية بعدها كلها في التحدث مع أهل الكتاب الذين أنكروا غاية الإنكار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: ثبوت النسخ ،وأنه جائز عقلاً ،وواقع شرعاً ؛وهذا ما اتفقت عليه الأمة إلا أبا مسلم الأصفهاني ؛فإنه زعم أن النسخ مستحيل ؛وأجاب عما ثبت نسخه بأن هذا من باب التخصيص ؛وليس من باب النسخ ؛وذلك لأن الأحكام النازلة ليس لها أمد تنتهي إليه ؛بل أمدها إلى يوم القيامة ؛فإذا نُسِخت فمعناه أننا خصصنا الزمن الذي بعد النسخ .أي أخرجناه من الحكم .؛فمثلاً: وجوب مصابرة الإنسان لعشرة حين نزل كان واجباً إلى يوم القيامة شاملاً لجميع الأزمان ؛فلما نُسخ أخرج بعض الزمن الذي شمله الحكم ،فصار هذا تخصيصاً ؛وعلى هذا فيكون الخلاف بين أبي مسلم وعامة الأمة خلافاً لفظياً ؛لأنهم متفقون على جواز هذا الأمر ؛إلا أنه يسميه تخصيصاً ؛وغيره يسمونه نسخاً ؛والصواب تسميته نسخاً ؛لأنه صريح القرآن:{ما ننسخ من آية أو ننسها}؛ولأنه هو الذي جاء عن السلف ..
. 2 ومن فوائد الآية: أن الناسخ خير من المنسوخ ؛لقوله تعالى:{نأت بخير منها}؛أو مماثل له عملاً .وإن كان خيراً منه مآلاً .؛لقوله تعالى: ( أو مثلها )
. 3 ومنها: أن أحكام الله سبحانه وتعالى تختلف في الخيرية من زمان إلى زمان ؛بمعنى أنه قد يكون الحكم خيراً للعباد في وقت ؛ويكون غيره خيراً لهم في وقت آخر ..
. 4 ومنها: عظمة الله عز وجل لقوله تعالى:{ما ننسخ}: فإن الضمير هنا للتعظيم ؛وهو سبحانه وتعالى أهل العظمة ..
. 5 .ومنها: إثبات تمام قدرة الله عز وجل ؛لقوله تعالى:{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}؛ومن ذلك أنه قادر على أن ينسخ ما يشاء ..
. 6 ومنها: أن قدرة الله عامة شاملة ؛لقوله تعالى: ( أن الله على كل شيء قدير ) .
. 7 ومنها: أن القادر على تغيير الأمور الحسية قادر على تغيير الأمور المعنوية ؛فالأمور القدرية الكونية الله قادر عليها ؛فإذا كان قادراً عليها فكذلك الأمور الشرعية المعنوية ؛وهذا هو الحكمة في قوله تعالى:{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} بعد ذكر النسخ ..
. 8 ومنها: أن الشريعة تابعة للمصالح ؛لأن النسخ لا يكون إلا لمصلحة ؛فإن الله لا يبدل حكماً بحكم إلا لمصلحة ..
قد يقول قائل: ما الفائدة إذاً من النسخ إذا كانت مثلها والله تعالى حكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة ؟
فالجواب: أن الفائدة اختبار المكلف بالامتثال ؛لأنه إذا امتثل الأمر أولاً وآخراً ،دل على كمال عبوديته ؛وإذا لم يمتثل دل على أنه يعبد هواه ،ولا يعبد مولاه ؛مثال ذلك: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ؛هذا بالنسبة للمكلف ليس فيه فرق أن يتجه يميناً ،أو شمالاً ؛إنما الحكمة من ذلك اختبار المرء بامتثاله أن يتجه حيثما وجه ؛أما المتجَه إليه ،وكونه أولى بالاتجاه إليه فلا ريب أن الاتجاه إلى الكعبة أولى من الاتجاه إلى بيت المقدس ؛ولهذا ضل من ضل ،وارتد من ارتد بسبب تحويل القبلة: قال الله تعالى:{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} [ البقرة: 143]؛فالإنسان يبتلى بمثل هذا النسخ ؛إن كان مؤمناً عابداً لله قال: سمعت وأطعت ؛وإن كان سوى ذلك عاند ،وخالف: يقول: لماذا هذا التغيير !فيتبين بذلك العابد حقاً ،ومن ليس بعابد ..
. 9 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى وعد بأنه لا يمكن أن ينسخ شيئاً إلا أبدله بخير منه ،أو مثله ؛ووعده صدق ..
. 10 ومنها: ذكر ما يطمئن به العبد حين يخشى أن يقلق فكره ؛لقوله تعالى: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها )